التحولات الاجتماعية والقيميةمدخل لمقاربة تقرير الخمسينية/مقاربة سوسيولوجية للحكامة
ـــــــــــــ
ـــــــــــــ
www.tanmia.ma
المصدر محمد مصباح1-موقع تقرير الخمسينية:www.rdh50.ma 2-المغرب الممكن,50 سنة من التنمية البشرية.-3الحكامة و الديمقراطية:يحيى اليحياوي, جريدة العلم,15 غشت 20044-الحكامة الرشيدة و المجتمع المدني: عبد الله ابو اياد العلوي.
مدخل عام:موضوع الحكامة من المفاهيم المتداولة في المغرب في الفترة الراهنة,وتندرج أهميته من الناحية العلمية بقلة الدراسات حوله, كما أن أغلب هذه الدراسات التي اطلعت عليها تركز على الأبعاد السياسية و الإدارية,لذلك فالمقاربة السوسيولوجية للموضوع التي اعتمدتها في هذا العرض ستكون محكومة بهذا المحدد المنهجي الأساسي,و من المعلوم في مجال البحث العلمي أن العوائق هي مداخل للإنتاج و التوليد.فما هي الحكامة ؟ وما هي القيم التي تحملها؟ - الحكامة بالمغرب: نجد خطابا مهما حول هذا الموضوع,يغلب عليه الطابع السياسي,لكن السؤال المطروح,ما هي الفرص و الإكراهات أمام تحقيق نظام الحكامة بالمغرب؟المؤشر الذي يعتمده هذا البحث هو تقرير الخمسينية باعتباره أهم المرجعيات التي يمكن الاستناد إليها في دراسة هذا الموضوع,و هذا راجع بالأساس إلى كون ثلة من الباحثين في تخصصات علمية مختلفة شاركوا في هذا البحث(بورقية,الطوزي,رشيق,عبد ربي...)و كان للمقاربة السوسيولوجية حضور هام من خلال الورقة التي قدمت حول التحولات الاجتماعية بالمغرب و كذا البحث الوطني حول القيم.الإشكالية:إلى أي حد كانت المقاربة السوسيولوجية حاضرة في الرؤية التي اعتمدها التقرير حول قضية الحكامة؟الفرضية:نضع في البداية فرضية بمثابة إجابة أولية و هي أن التقرير كان محكوما بالبعد السياسي و الإداري للموضوع ,و أن الأبعاد السوسيولوجية قد تم دراستها في سياق مستقل ضمن ورقة التحولات الاجتماعية بالمغرب، فإلى أي حد يمكن استثمار هذه الورقة و نتائجها في فهم البعد السوسيولوجي للحكامة؟ملاحظة:لا نهتم في هذا العرض برصد ميداني بحضور الحكامة مثلا,في الخطاب الشفوي للمواطنين(التمثلات الاجتماعية للحكامة ...),و لا أهتم بنتائج البنية المؤسساتية لنظام الحكامة,ذلك أن السياق الوطني كما يبدو من خلال التقرير يتحدث عن الحكامة كأفق و رهان و ليس كمعطى موجود ,بمعنى أننا سنتحدث عن البعد السوسيولوجي كعائق نحو إنجازها.المنهج:سنعتمد في هذا العرض على المقاربة المفهومية من خلال تحديد مفهوم الحكامة و القيم الاجتماعية التي يحملها,و عن القيم السائدة في المجتمع,نشير إلى بعضها:قيم الحكامة القيم السائدةالمشاركة الإقصاءالمحاسبة الإفلات من العقابالشفافية الرشوة.................... ......................و هذا سيجرنا إلى الحديث عن جدل التحديث (الحكامة)و التقليد,أي إلى أي حد تستجيب البنية الاجتماعية للقيم الجديدة التي يحملها نظام الحكامة؟أم أننا سنعرف صراعا بين القيم الجديدة(الحكامة)و القيم السائدة؟.التصميم:1. الحكامة:تحديد مفهوميمفهوم الحكامة gouvernance يندرج ضمن المفاهيم الأساسية لهذا العقد من الزمن,و هي حسب المفكر يحيى اليحياوي ,صنيعة نيوليبرالية خالصة,صممت شكلها و مضمونها المؤسسات المالية و الاقتصادية العالمية,و لفظ gouvernance يفيد معنى الرقابة و التوصية و التدبير,و هي ترتكز على ثلاث معطيات أساسية:1) الفاعل يساهم في صناعة القرار المحلي(نخبة محلية): تتكون من جمعيات المجتمع المدني, نقابات, أحزاب سياسية, مثقفين بالإضافة إلى السلطة.2) وجود قرار محلي مستقل:أي عدم تدخل السلطة المركزية في صياغة القرارات المحلية مع عدم تجاوز كل طرف لاختصاصات الآخر.3)مبدأ التشاركية :مشاركة جميع الفاعلين في صياغة القرار,و تقوية النقاش العمومي من خلال إرساء تقاليد قوية لتناظر أيديولوجي و علمي بعيدا عن النزعة الفئوية الضيقة.انطلاقا من المعطيات الثلاثة السابقة , فالحكامة تسائل الديمقراطية القائمة ببعدها التمثيلي منه و التشاركي,و تجمع بين الرقابة من أعلى-الدولة- و الرقابة من أسفل-المجتمع المدني-,و تتغيى التدبير السليم للشؤون العامة و للموارد و الإمكانات البشرية منها و المادية .مبادئ الحكامة:*الرؤية الإستراتيجية:أي الرؤية المنطلقة من المعطيات الثقافية و الاجتماعية الهادفة إلى تحسين شؤون الناس و تنمية المجتمع و القدرات البشرية.*المشاركة و المساواة:أي حق الرجل و المرأة في الترشيح و التصويت و إبداء الرأي ديمقراطيا في البرامج و السياسات و القرارات, و الحصول على الفرص المتساوية في الارتقاء الاجتماعي.*حكم القانون:أي أن القانون هو المرجعية و سيادته على الجميع بدون استثناء و فصل السلط , و استقلالية القضاء ,ووضوح القوانين و شفافيتها و انسجامها في التطبيق.*الشفافية:تعني توفر المعلومات الدقيقة في وقتها و إفساح المجال أمام الجميع للاطلاع على المعلومات الضرورية مما يساعد في اتخاذ القرارات الصالحة و كذلك من اجل توسيع دائرة المشاركة و الرقابة و المحاسبة و من اجل التخفيف من الهذر و محاصرة الفساد.*الفعالية:أي توفر القدرة على تنفيذ المشاريع التي تستجيب لحاجيات المواطنين و تطلعاتهم على أساس إدارة عقلانية و راشدة للموارد.*المحاسبة:يقصد بها امتثال جميع الأجهزة و الأفراد و المرجعيات للمساءلة و التقويم و المتابعة في حالة التقصير , و المتابعة القضائية في حالة التبديد او استغلال النفوذ.يبدو لنا أن الحكامة تحمل قيما مؤسساتية(المحاسبة..)و قيم اقتصادية(حسن التسيير..)و قيم سياسية(الديمقراطية,المواطنة..),و هذه كلها قيم اجتماعية تكون المبادئ الأساسية لنظام الحكامة.2. الحكامة في تقرير الخمسينية:يعتبر تقرير الخمسينية بحثا مهما حول حالة المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم, و نجد في البحث الموضوعاتي فصلا خاصا بالحكامة و التسيير الإداري,يغلب عليه البعد السياسي و الإداري,و سنحاول قراءة التقرير قراءة سوسيولوجية من خلال توظيف الورقة التي قدمت حول التحولات الاجتماعية بالمغرب, و البحث الوطني حول القيم.و من خلال قراءة أولية لهذه الوثائق,تبين لي أن التقرير ككل, لم يتحدث عن وجود نظام الحكامة بالمغرب بل بالأحرى "إمكانية" وجوده كرهان و كممكن, ف"هذه المحاولات الرامية إلى تفعيل الحكامة الترابية,لم تحقق النتائج المتوخاة منها, إذ أن الانزلاقات الحاصلة، والطابع العرضي وغير المستقر للتحالفات الحزبية المحلية، والتكوين المتفاوت للمنتخبين، وسوء التدبير، والتقطيع الترابي غير الملائم كلها عوامل، من بين أخرى، أضرت بالتنمية البشرية، في العديد من الجماعات القروية والحضرية,هذا من جهة ,من جهة أخرى, عرفت الحكامة نقائص كبيرة على المستوى الإداري المركزي، و كذا على مستوى الهيئات الوطنية اللامركزية,بالرغم من بعض التصورات الظرفية والمحلي ، ويتجلى ذلك في تفشي وتكريس التلاعب بالمال العام، وتهريب الأموال,والرشوة والمحسوبية، والزبونية، على الرغم من التدابير والنوايا الحسنة، ومن بينها الإعلان عن ميثاق لحسن التدبير،وشفافية إجراء الصفقات العمومية، وإدخال قواعد متكافئة في مجال تدبير الموارد البشرية، وإنشاء المجالس الجهوية للحسابات، والشروع في إصلاح القضاء، وخاصة بإنشاء المحاكم الإدارية والمحاكم التجارية، واللجوء المتواتر إلى الافتحاصات الخارجية.وإذا كان نجاح اللامركزية وتعميم الحكامة الديمقراطية الترابية يتوقف على التحكم الجيد في المسالك المنبثقة على مستوى المصداقية وتنمية قدرات الهيئات المحلية، فإنه لا يمكن ربح هذا الرهان آليا دون نهج تصور جهوي متجدد، ودون ضمان تكامل و مواكبة ضروريين لأية لامركزية فعلية، أي لا مركزية إدارية حقة,أي إننا حسب التقرير نفسه, أمام "نمط حكامة ما زال يبحث عن نفسه".1البحث الوطني حول القيم(ENV 2004) يذهب إلى منظومة القيم عرفت تحولات على عدة مستويات , فالمجتمع المغربي ورث مجموعة من القيم التقليدية تعود الى فترة الاستقلال,و هذه الأخيرة تأثر في علاقات الأفراد و الجماعات مع الدولة و الجماعات,كما يذهب نفس التقرير إلى أن الدين و العرف هما أهم مصادر القيم , و أن اتجاه منظومة القيم بالمغرب يعرف أزمة"crise de valeurs" ,فهو ليس متماسك و ملتحم,بل يعكس صراعا بين القيم التقليدية و القيم الحديثة,فالإكراهات البنيوية تدفع الناس إلى ترك القيم التقليدية أو تكييفها مع المعطى الجديد.أما ورقة التحولات للاجتماعية بالمغرب فتذهب إلى أن المجتمع المغربي يعرف تحولات اجتماعية عميقة,"إنه مجتمع يتمدن وأنماط عيشه تتغير؛ مجتمع يشهد تغييرات مهمة على مستوى البنية الأسرية والمساهمة النسائية,كما أنه مجتمع يطور قنوات جديدة للتعبير ويعرف ظهور فاعلين جدد؛ مجتمع تعيش مرجعية قيمه سيرورة تحول، مع كونه ما يزال مترددا إزاء الحداثة. "كما أن التغيير قد طال أيضا أشكال العمل والمشاغل الاجتماعية" بصفة عامة. لقد انتقلت العديد من الحرف والمهن إلى قطاعات الاقتصاد الحديثة., الحكامة و القيم السوسيولوجية:هذه الديناميكية الاجتماعية تدفعنا إلى البحث عن إمكانية مواكبتها للرهانات ذات البعد الكوني(الحكامة),و تبيئة هذا المفهوم و إعطاءه صبغة محلية من خلال موائمته مع القيم السائدة و تجاوز القيم التقليدية التي تحول دون تفعيل الحكامة ,فكما يبدو لنا فالحكامة تتضمن قيم مؤسساتية(المحاسبة,المأسسة..),وقيم إقتصادية(الشفافية, التخطيط..),و قيم سياسية(الديمقراطية,المواطنة..) و هذه كلها قيم اجتماعية يحملها نظام الحكامة. و هنا تظهر أهمية البحث السوسيولوجي في الكشف عي الميكانيزمات و الآليات التي تسمح بفهم التحولات العميقة التي يعرفها المجتمع .خلاصة:يبقى البعد السوسيولوجي حول الحكامة مهما كأفق للبحث لتجاوز التضخم في الخطاب السياسي حوله, و ذلك من خلال:-فهم الظاهرة المجتمعية في العمق ببلادنا, من حيث البنية و طبيعة الحركية و التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي.-الإشتغال على نظام القيم المجتمعية و مدى استقبالها لنظام الحداثة(الحكامة).و في الأخير هل تمت مثلا,دراسة حول تمثلات الفاعلين(المثقفين,رؤساء الأحزاب,المجتمع المدني...)لهذه المفاهيم؟و مدى تقييمهم لبعدها السوسيولوجي؟ :
محاولة البدئ تفترض الاخطاء وتنتظر التقويم.... جملة من الكتابات تقارب مواضيع الحكامة،الشأن العام المحلي،القانون الاداري وعلم الادارة،المالية المحلية،كما تتناول الرصد الترابي وتنمية المجال.. للاطلاع على المقالات بطريقة عادية من اليمين الى اليسار المرجو الضغط اعلاه اقصى اليسار على عبارةRechercher le plog.
السبت، 27 أكتوبر 2007
الحكامة والديموقراطية ... يحيى اليحياوي
أفق : الأثنين 06 يونيو 2005
-1-
ترتكز موضوعة الحكامة, في منطوقها كما في فلسفتها, على ثلاثة تحديدات مركزية تضبط لها المحتوى والمضمون وترسم لها الفضاء والأبعاد:
- فهي تتوخى, بداية, مقاربة التطورات والتحولات التي تطاول المنظمات العمومية المشاع أنها تمر بمرحلة أزمة في المشروعية, وتطاول أيضا ولربما بالقدر ذاته, المنظمات الخاصة المهووسة دائما بقضايا التنظيم الداخلي (اليومي كما الاستراتيجي) والخاضعة باستمرار لسلطان التسيير والتدبير وما سواهما.
موضوعة الحكامة من هنا إنما تعتمل داخل المنظمات كما داخل المجموعات كما بصلب النظام العام, ليس فقط لكونها معرضة (في فردانيتها أو في اجتماعها) لتحديات عالم معقد ومضطرب أيما يكن التعقيد والاضطراب, ولكن أيضا لأنها تتطلع في معظمها إلى صياغة نمط في الحكم تتقوض بداخله الحدود الفاصلة بين الفضاءات وأولاها الفضاء المميز بين القطاعين العام والخاص.
- وهي تطمح, ثانية, إلى ترجمة أشكال التنظيم الجديدة المحلي منها كما الدولاتي كما الدولي كما الكوني سواء بسواء...إما في أفق البحث عن ترابطات بين مختلف المستويات المجالية القائمة أو بجهة خلق تراتبية جديدة بين شتى ضروب التقاطع الناظمة لطبيعة الصراعات والمصالح المستفحلة في ظل العولمة وانفتاح المجالات.
- وهي تتغيأ, فضلا عن كل هذا وذاك, إقامة منظومة وصفية وتحليلية (في أفق تأطير مفاهيمي ما) يكون من شأنها البناء "لوصفات" قابلة للتطبيق بهذه الجهة من العالم أو تلك... من قبيل مفهوم "الحكامة الجيدة" التي وضعتها المؤسسات المالية الدولية ولا تتوانى في الدفع بها والدفاع عنها في الزمن كما في المكان.
بالتالي, فـ "مفهوم" الحكامة (شأنه في ذلك شأن باقي مفاهيم السوسيولوجيا والاقتصاد وعلوم السياسة وغيرها) إنما يصبو لبلوغ مرتبة "الأداة العلمية" التي يكون بمقدورها ضبط وتفسير التوجهات الكبرى التي تحكم تطورات وتحولات المنظمات كما المجموعات كما نظم الحكم.
الحكامة تبقى, على الرغم من هذا التحديد أو ذاك, من هذا التطلع أو ذاك, تبقى مصطلحا لا خلفية مفاهيمية كبرى لديه تذكر, ليس فقط لأنها لم تخضع بعد لعملية تنظير مجردة أو لكونها تحيل على تخصصات مختلفة, متباينة المشارب والأدوات, ولكن أيضا لأن فضاءها إنما هو مكمن تمطيط وتمديد يبدأ بالفرد في محليته الضيقة ولا ينتهي إلا في أحضان العالم الواقعي وربما الفضاء الافتراضي مرورا بما سواهما من مستويات وسيطة.
ولما كانت كذلك وأكثر, فإن مدلولها العام (الرائج على الأقل) إنما يتغيأ الأخذ بعين الاعتبار وترجمة واقع "تهميش وتمييع دور الدولة وانفجار مد الشبكات بكل أشكالها وانتقال الحدود بين العام والخاص والبحث عن أنماط تنسيق جديدة يكون بمقدورها تمكين العمل العمومي من التكريس" والتجدير في الزمن والمكان.
إنها تتطلع إلى التذكير بـ "حقيقة" التحولات التي تطاول الاقتصاد والمؤسسات والبنى الاجتماعية والمصالح القائمة... وما سواها مجتمعة.
الحاصل, بناء على ذلك, أن الإشكال لدى أطروحة الحكامة إنما هو كامن في فشل سبل العمل والتنسيق التي كانت الدولة قائمة عليها إلى حين عهد قريب, مستبعدة في ذلك "مجهودات" القطاع الخاص ومساهمات مكونات المجتمع المدني وطموح الأفراد والجماعات في شتى أشكال تكتلاتهم المحلية أو الجهوية أو ذات الخلفيات المختلفة الأخرى.
يبدو الأمر من هنا إذن ولكأن الحكامة, بتركيزها على ذات المستويات, إنما تسائل الديموقراطية القائمة ببعديها السائدين التمثيلي منه كما التشاركي سواء بسواء.
-2-
لا تكتفي موضوعة الحكامة, الرائجة منذ مدة بأروقة المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية, بالمطالبة بالتسيير الجيد والتدبير السليم للشؤون العامة (والذي يترجمه مصطلح "الحكامة الجيدة" بامتياز), بل وتذهب إلى مستوى إلحاحها على ضرورة تعضيد ذلك بـ "جرعات" في الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان تترجم بمقتضاها قيم المواطنة و "الإحساس بالمسؤولية" ومساهمة الغالبية في تدبير إذا لم يكن الملك العام فعلى الأقل ما يعنيه الشأن العام بالجملة قبل التفصيل.
لا تنزع الحكامة من خلال هذا إضافة "جرعات جديدة " إلى معطى الديموقراطية القائم (إشراك الجمعيات, إقحام دور المنظمات الفاعلة داخل المدن وبهوامشها, الإنصات لمطالب التكتلات الحضري منها كما البدوي وما سوى ذلك), بل وتتطلع أيضا (ظاهريا على الأقل) إلى خلق فضاءات عمومية وبناء مجالات للحوار والمساهمة يكون للرأي والرأي المخالف له حضور مماثل دونما حجر على رأي هذه الجهة أو تجاهل لتوجه تلك.
بالتالي, فبقدر ما تدفع الحكامة بضرورة تسييد قيم التسيير الجيد والتدبير الرشيد للموارد والإمكانات المتاحة اقتصاديا واجتماعيا, فإنها تدفع أيضا وبالقدر ذاته إلى إلزامية مصاحبة ذلك (سياسيا ومؤسساتيا) بنظم في الحكم لا ترتكن إلى تمثيلية الجسد الانتخابي حتى بأسمى صوره وأشكاله, بل وتذهب لحد جعله في قلب صناعة القرار إذا لم يكن بالتمثيل الشاسع والواسع, فعلى الأقل بالتشاور المكثف الذي يضمن التشاركية ولا يقتصر على مستوى الانتداب غير مضمون النتائج والتبعات.
والآية من ذلك إنما ضمان شكل في الديموقراطية تشاركي مقابل شكل الديموقراطية التمثيلي السائد ...الذي يستصدر البعد التشاركي ويقصيه إلى حد بعيد حتى بوجود نصوص في اللاتمركز واللامركزية قوية وجريئة (كما بفرنسا أو بألمانيا أو بغيرهما).
وعلى هذا الأساس, فالحكامة إنما تضع الديموقراطية التمثيلية (البرلمانية عموما) في محك من أمرها ليس فقط باعتبارها إياها مركزة لآليات اتخاذ القرار ولا لكونها تحتكر (لدرجة الاستصدار) سلطة الولاية على الشأن العام, ولكن أيضا كونها تحجر على قضايا الشأن المحلي والجهوي التي غالبا ما يكون أمر البث فيها من صلاحيات مجالس منتخبة, تعمل بمبدأ القرب ولا حساب لها تقدمه إلا لهذا التجمع السكاني الضيق أو ذاك دونما حاجة من لدنها (أو إكراه) إلى وصاية من المركز أو ضرورة قانونية لطلب استشارته أو الاحتماء المسطري بما قد يصدر عنه.
قد لا يكون القصد من لدن دعاة الحكامة تقويض مرتكزات الديموقراطية التمثيلية (سيما بالدول التي لم يتسن لذات المرتكزات أن تستنبت بصلبها وتتقوى), لكنها تقصد حتما تعضيدها (بهذه الدول كما بالدول الديموقراطية) بأشكال جديدة في الديموقراطية تدمج رأي ومطلب المحلي الضيق ولا تستبعد آراء ومطالب الكوني الشاسع... المدافع (في إطار التعاون اللاممركز تحديدا) على خلق سبل في التضامن بين الأفراد والجماعات, بين القرى والمدن, بين الجهات والمجموعات, بين تجاذب المصالح والمنافع بين هذه المنطقة من العالم وتلك حتى وإن كانت مستويات نموها مختلفة لدرجة التباين المطلق.
من هنا, فمبدأ الحكامة الرائج منذ مدة لا يتغيأ فقط زرع بذور الشفافية والعدالة وسيادة مبادئ القانون في تدبير قضايا الشأن العام, بل وأيضا وبموازاة ذلك, التوكيد على أن بلوغ ذلك إنما يتجاوز ثنائية الدولة والجماعات المحلية ليطاول مختلف أطراف المعادلة الحضري منها كما القروي, ذي النزعة الفئوية الضيقة كما ذي التطلع المحلي الأوسع, المدافع عن المجموعات الهشة اقتصاديا واجتماعيا كما المطالب بصيانة الطبيعة والبيئة وهكذا.
بالتالي, فنحن بهذه النقطة, لن نكون فقط بإزاء إغناء عابر لمبادئ الديموقراطية التمثيلية التي تعارفت عليها المجموعات من قبل كما في الوقت الراهن, بل وأيضا بإزاء تجاوز بنيوي للمرتكزات الشكلية التي بنيت عليها لعقود طويلة خلت...أي بإزاء تطعيم ذات المرتكزات وتحصينها بما استجد من أشكال الحكم والتدبير العام.
-3-
يبدو إذن, على الأقل بناء على ما سبق, أن الحكامة (في صيغها المختلفة, الحضري/ البدوي منها كما الدولاتي, الترابي منها كما المركزي) إنما هي تحد للديموقراطية في شكلها التمثيلي, البرلماني والممركز... ودفعا بتمثلات في الديموقراطية جديدة قوامها الأساس المساهمة والتشاركية في صياغة القرار كما في تنفيذه بأرض الواقع.
قد لا يبدو الأمر بهذه الشاكلة (المثالية والطموحة يقول البعض) ليس فقط بالاحتكام إلى مجريات ذات الواقع, ولكن أيضا احتكاما إلى محدودية التصور في حد ذاته:
- فالحكامة صنيعة نيوليبيرالية خالصة صممت شكلها ومضمونها المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية لغايات لا تتطلع من خلالها تحديد "قواعد اللعبة" بين الدولة وما سواها من مستويات دنيا أو عليا, بل وبغرض تحجيم دور الأولى وتقويضه لفائدة هذه الأخيرة لاعتبارات قد يكون "هوس" التسيير الجيد والحكم الرشيد آخر المفكر فيه إذا لم يكن حقيقة المستبعد بالجملة والتفصيل.
- والحكامة, للاعتبار أعلاه ولغيره بالتأكيد, لا تبدو تجاوزا للديموقراطية التمثيلية, طعنا في مقوماتها, بل هي تبدو ولكأنها "إنقاذا" لشرعيتها المتآكلة ودودا عما تبقى لفاعليها من مشروعية تراجعت (في ظل العولمة) جراء طغيان المالي على الاقتصادي, الاقتصادي على السياسي, أي غير المنتخب على الذي في عهدته التزام انتخابي محليا كان أم وطنيا أم إقليميا أم ما سواه من التزامات.
يبدو الأمر بهذا الجانب إذن ولكأن الديموقراطية هي آخر المفكر فيه من لدن الحكامة, بل قد لا تعدو أن تكون مكونا من مكوناتها لدرجة تبدو معها الحكامة هي الأصل والديموقراطية هي الفرع... أي أن الحكامة ("الجيدة" تحديدا) هي التي تقود, نهاية المطاف, إلى "الديموقراطية- الحق" وليس العكس.
قد لا تكون العبرة بمن أتى الأول ولا بمن أسس للآخر, لكنها تتأتى بالتأكيد من أربع مفارقات تبدو الحكامة في خضمها على المحك أكثر من الديموقراطية في شكليها الواردين التمثيلي منه كما التشاركي سواء بسواء:
°°- فالحكامة تحيل على مستويات مختلفة وعلى فاعلين كثر تربطهم علائق متواترة ومعقدة ليس من الهين استجلاء مفاصلها ولا التثبت من طبيعتها.
إذا كان الأمر كذلك (وهو كذلك فيما نعتقد جازمين), فما السبيل لبناء شرعية مستويات كهاته متباينة ومعقدة وذات جغرافية متحركة زمنا وفي المكان, في المظهر كما في الجوهر؟
°°- ثم إنه لما كانت الحكامة تقويضا للحدود وتمييعا للمسافات في ميادين العمل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وغيرها...فكيف للمرء والحالة هاته أن يحدد المسؤوليات ويرسم فضاءات الفعل ويكون بمستطاعه, فوق كل هذا وذاك, تعيين مكامن القصور والخلل؟
°°- ولما كانت الحكامة عملية تفاعلية بين المستويات المشاركة والعمل الجماعي الواسع... فكيف التأكد بهذه الحالة مما هو صنيعة هذا المستوى أو ذاك سيما في ظل تراجع شرعيات هؤلاء وتآكل مشروعية أولئك؟
°°- ثم إن الحكامة تفترض فاعلين "مستقلين" (بإزاء الدولة أو الجهة أو ما سواهما), كيف بهذه الحالة الاتكال على هؤلاء في غياب مسؤولية جماعية تكون مكمن الديموقراطية ومصدرها؟
لعل الحاصل من هذه المفارقات إنما الاعتقاد بأن الذي هو في المحك اليوم ليس الديموقراطية, بل " منظومة" الحكامة بكل تلاوينها وأشكالها... والسر في ذلك لا يكمن في كون الحكامة دخيلة على الديموقراطية, محاولة "لتجديدها من الداخل", ولكن لأن الذين يدفعون بها (الحكامة أعني) فكرا وممارسة... إنما هم آخر من يفكر فيها أو يعتمد القرارات اليومية منها كما الاستراتيجية على خلفية من قيمها.
يحيى اليحياوي: كاتب وأكاديمي من المغرب
elyahyaoui@elyahyaoui.org
أفق : الأثنين 06 يونيو 2005
-1-
ترتكز موضوعة الحكامة, في منطوقها كما في فلسفتها, على ثلاثة تحديدات مركزية تضبط لها المحتوى والمضمون وترسم لها الفضاء والأبعاد:
- فهي تتوخى, بداية, مقاربة التطورات والتحولات التي تطاول المنظمات العمومية المشاع أنها تمر بمرحلة أزمة في المشروعية, وتطاول أيضا ولربما بالقدر ذاته, المنظمات الخاصة المهووسة دائما بقضايا التنظيم الداخلي (اليومي كما الاستراتيجي) والخاضعة باستمرار لسلطان التسيير والتدبير وما سواهما.
موضوعة الحكامة من هنا إنما تعتمل داخل المنظمات كما داخل المجموعات كما بصلب النظام العام, ليس فقط لكونها معرضة (في فردانيتها أو في اجتماعها) لتحديات عالم معقد ومضطرب أيما يكن التعقيد والاضطراب, ولكن أيضا لأنها تتطلع في معظمها إلى صياغة نمط في الحكم تتقوض بداخله الحدود الفاصلة بين الفضاءات وأولاها الفضاء المميز بين القطاعين العام والخاص.
- وهي تطمح, ثانية, إلى ترجمة أشكال التنظيم الجديدة المحلي منها كما الدولاتي كما الدولي كما الكوني سواء بسواء...إما في أفق البحث عن ترابطات بين مختلف المستويات المجالية القائمة أو بجهة خلق تراتبية جديدة بين شتى ضروب التقاطع الناظمة لطبيعة الصراعات والمصالح المستفحلة في ظل العولمة وانفتاح المجالات.
- وهي تتغيأ, فضلا عن كل هذا وذاك, إقامة منظومة وصفية وتحليلية (في أفق تأطير مفاهيمي ما) يكون من شأنها البناء "لوصفات" قابلة للتطبيق بهذه الجهة من العالم أو تلك... من قبيل مفهوم "الحكامة الجيدة" التي وضعتها المؤسسات المالية الدولية ولا تتوانى في الدفع بها والدفاع عنها في الزمن كما في المكان.
بالتالي, فـ "مفهوم" الحكامة (شأنه في ذلك شأن باقي مفاهيم السوسيولوجيا والاقتصاد وعلوم السياسة وغيرها) إنما يصبو لبلوغ مرتبة "الأداة العلمية" التي يكون بمقدورها ضبط وتفسير التوجهات الكبرى التي تحكم تطورات وتحولات المنظمات كما المجموعات كما نظم الحكم.
الحكامة تبقى, على الرغم من هذا التحديد أو ذاك, من هذا التطلع أو ذاك, تبقى مصطلحا لا خلفية مفاهيمية كبرى لديه تذكر, ليس فقط لأنها لم تخضع بعد لعملية تنظير مجردة أو لكونها تحيل على تخصصات مختلفة, متباينة المشارب والأدوات, ولكن أيضا لأن فضاءها إنما هو مكمن تمطيط وتمديد يبدأ بالفرد في محليته الضيقة ولا ينتهي إلا في أحضان العالم الواقعي وربما الفضاء الافتراضي مرورا بما سواهما من مستويات وسيطة.
ولما كانت كذلك وأكثر, فإن مدلولها العام (الرائج على الأقل) إنما يتغيأ الأخذ بعين الاعتبار وترجمة واقع "تهميش وتمييع دور الدولة وانفجار مد الشبكات بكل أشكالها وانتقال الحدود بين العام والخاص والبحث عن أنماط تنسيق جديدة يكون بمقدورها تمكين العمل العمومي من التكريس" والتجدير في الزمن والمكان.
إنها تتطلع إلى التذكير بـ "حقيقة" التحولات التي تطاول الاقتصاد والمؤسسات والبنى الاجتماعية والمصالح القائمة... وما سواها مجتمعة.
الحاصل, بناء على ذلك, أن الإشكال لدى أطروحة الحكامة إنما هو كامن في فشل سبل العمل والتنسيق التي كانت الدولة قائمة عليها إلى حين عهد قريب, مستبعدة في ذلك "مجهودات" القطاع الخاص ومساهمات مكونات المجتمع المدني وطموح الأفراد والجماعات في شتى أشكال تكتلاتهم المحلية أو الجهوية أو ذات الخلفيات المختلفة الأخرى.
يبدو الأمر من هنا إذن ولكأن الحكامة, بتركيزها على ذات المستويات, إنما تسائل الديموقراطية القائمة ببعديها السائدين التمثيلي منه كما التشاركي سواء بسواء.
-2-
لا تكتفي موضوعة الحكامة, الرائجة منذ مدة بأروقة المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية, بالمطالبة بالتسيير الجيد والتدبير السليم للشؤون العامة (والذي يترجمه مصطلح "الحكامة الجيدة" بامتياز), بل وتذهب إلى مستوى إلحاحها على ضرورة تعضيد ذلك بـ "جرعات" في الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان تترجم بمقتضاها قيم المواطنة و "الإحساس بالمسؤولية" ومساهمة الغالبية في تدبير إذا لم يكن الملك العام فعلى الأقل ما يعنيه الشأن العام بالجملة قبل التفصيل.
لا تنزع الحكامة من خلال هذا إضافة "جرعات جديدة " إلى معطى الديموقراطية القائم (إشراك الجمعيات, إقحام دور المنظمات الفاعلة داخل المدن وبهوامشها, الإنصات لمطالب التكتلات الحضري منها كما البدوي وما سوى ذلك), بل وتتطلع أيضا (ظاهريا على الأقل) إلى خلق فضاءات عمومية وبناء مجالات للحوار والمساهمة يكون للرأي والرأي المخالف له حضور مماثل دونما حجر على رأي هذه الجهة أو تجاهل لتوجه تلك.
بالتالي, فبقدر ما تدفع الحكامة بضرورة تسييد قيم التسيير الجيد والتدبير الرشيد للموارد والإمكانات المتاحة اقتصاديا واجتماعيا, فإنها تدفع أيضا وبالقدر ذاته إلى إلزامية مصاحبة ذلك (سياسيا ومؤسساتيا) بنظم في الحكم لا ترتكن إلى تمثيلية الجسد الانتخابي حتى بأسمى صوره وأشكاله, بل وتذهب لحد جعله في قلب صناعة القرار إذا لم يكن بالتمثيل الشاسع والواسع, فعلى الأقل بالتشاور المكثف الذي يضمن التشاركية ولا يقتصر على مستوى الانتداب غير مضمون النتائج والتبعات.
والآية من ذلك إنما ضمان شكل في الديموقراطية تشاركي مقابل شكل الديموقراطية التمثيلي السائد ...الذي يستصدر البعد التشاركي ويقصيه إلى حد بعيد حتى بوجود نصوص في اللاتمركز واللامركزية قوية وجريئة (كما بفرنسا أو بألمانيا أو بغيرهما).
وعلى هذا الأساس, فالحكامة إنما تضع الديموقراطية التمثيلية (البرلمانية عموما) في محك من أمرها ليس فقط باعتبارها إياها مركزة لآليات اتخاذ القرار ولا لكونها تحتكر (لدرجة الاستصدار) سلطة الولاية على الشأن العام, ولكن أيضا كونها تحجر على قضايا الشأن المحلي والجهوي التي غالبا ما يكون أمر البث فيها من صلاحيات مجالس منتخبة, تعمل بمبدأ القرب ولا حساب لها تقدمه إلا لهذا التجمع السكاني الضيق أو ذاك دونما حاجة من لدنها (أو إكراه) إلى وصاية من المركز أو ضرورة قانونية لطلب استشارته أو الاحتماء المسطري بما قد يصدر عنه.
قد لا يكون القصد من لدن دعاة الحكامة تقويض مرتكزات الديموقراطية التمثيلية (سيما بالدول التي لم يتسن لذات المرتكزات أن تستنبت بصلبها وتتقوى), لكنها تقصد حتما تعضيدها (بهذه الدول كما بالدول الديموقراطية) بأشكال جديدة في الديموقراطية تدمج رأي ومطلب المحلي الضيق ولا تستبعد آراء ومطالب الكوني الشاسع... المدافع (في إطار التعاون اللاممركز تحديدا) على خلق سبل في التضامن بين الأفراد والجماعات, بين القرى والمدن, بين الجهات والمجموعات, بين تجاذب المصالح والمنافع بين هذه المنطقة من العالم وتلك حتى وإن كانت مستويات نموها مختلفة لدرجة التباين المطلق.
من هنا, فمبدأ الحكامة الرائج منذ مدة لا يتغيأ فقط زرع بذور الشفافية والعدالة وسيادة مبادئ القانون في تدبير قضايا الشأن العام, بل وأيضا وبموازاة ذلك, التوكيد على أن بلوغ ذلك إنما يتجاوز ثنائية الدولة والجماعات المحلية ليطاول مختلف أطراف المعادلة الحضري منها كما القروي, ذي النزعة الفئوية الضيقة كما ذي التطلع المحلي الأوسع, المدافع عن المجموعات الهشة اقتصاديا واجتماعيا كما المطالب بصيانة الطبيعة والبيئة وهكذا.
بالتالي, فنحن بهذه النقطة, لن نكون فقط بإزاء إغناء عابر لمبادئ الديموقراطية التمثيلية التي تعارفت عليها المجموعات من قبل كما في الوقت الراهن, بل وأيضا بإزاء تجاوز بنيوي للمرتكزات الشكلية التي بنيت عليها لعقود طويلة خلت...أي بإزاء تطعيم ذات المرتكزات وتحصينها بما استجد من أشكال الحكم والتدبير العام.
-3-
يبدو إذن, على الأقل بناء على ما سبق, أن الحكامة (في صيغها المختلفة, الحضري/ البدوي منها كما الدولاتي, الترابي منها كما المركزي) إنما هي تحد للديموقراطية في شكلها التمثيلي, البرلماني والممركز... ودفعا بتمثلات في الديموقراطية جديدة قوامها الأساس المساهمة والتشاركية في صياغة القرار كما في تنفيذه بأرض الواقع.
قد لا يبدو الأمر بهذه الشاكلة (المثالية والطموحة يقول البعض) ليس فقط بالاحتكام إلى مجريات ذات الواقع, ولكن أيضا احتكاما إلى محدودية التصور في حد ذاته:
- فالحكامة صنيعة نيوليبيرالية خالصة صممت شكلها ومضمونها المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية لغايات لا تتطلع من خلالها تحديد "قواعد اللعبة" بين الدولة وما سواها من مستويات دنيا أو عليا, بل وبغرض تحجيم دور الأولى وتقويضه لفائدة هذه الأخيرة لاعتبارات قد يكون "هوس" التسيير الجيد والحكم الرشيد آخر المفكر فيه إذا لم يكن حقيقة المستبعد بالجملة والتفصيل.
- والحكامة, للاعتبار أعلاه ولغيره بالتأكيد, لا تبدو تجاوزا للديموقراطية التمثيلية, طعنا في مقوماتها, بل هي تبدو ولكأنها "إنقاذا" لشرعيتها المتآكلة ودودا عما تبقى لفاعليها من مشروعية تراجعت (في ظل العولمة) جراء طغيان المالي على الاقتصادي, الاقتصادي على السياسي, أي غير المنتخب على الذي في عهدته التزام انتخابي محليا كان أم وطنيا أم إقليميا أم ما سواه من التزامات.
يبدو الأمر بهذا الجانب إذن ولكأن الديموقراطية هي آخر المفكر فيه من لدن الحكامة, بل قد لا تعدو أن تكون مكونا من مكوناتها لدرجة تبدو معها الحكامة هي الأصل والديموقراطية هي الفرع... أي أن الحكامة ("الجيدة" تحديدا) هي التي تقود, نهاية المطاف, إلى "الديموقراطية- الحق" وليس العكس.
قد لا تكون العبرة بمن أتى الأول ولا بمن أسس للآخر, لكنها تتأتى بالتأكيد من أربع مفارقات تبدو الحكامة في خضمها على المحك أكثر من الديموقراطية في شكليها الواردين التمثيلي منه كما التشاركي سواء بسواء:
°°- فالحكامة تحيل على مستويات مختلفة وعلى فاعلين كثر تربطهم علائق متواترة ومعقدة ليس من الهين استجلاء مفاصلها ولا التثبت من طبيعتها.
إذا كان الأمر كذلك (وهو كذلك فيما نعتقد جازمين), فما السبيل لبناء شرعية مستويات كهاته متباينة ومعقدة وذات جغرافية متحركة زمنا وفي المكان, في المظهر كما في الجوهر؟
°°- ثم إنه لما كانت الحكامة تقويضا للحدود وتمييعا للمسافات في ميادين العمل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وغيرها...فكيف للمرء والحالة هاته أن يحدد المسؤوليات ويرسم فضاءات الفعل ويكون بمستطاعه, فوق كل هذا وذاك, تعيين مكامن القصور والخلل؟
°°- ولما كانت الحكامة عملية تفاعلية بين المستويات المشاركة والعمل الجماعي الواسع... فكيف التأكد بهذه الحالة مما هو صنيعة هذا المستوى أو ذاك سيما في ظل تراجع شرعيات هؤلاء وتآكل مشروعية أولئك؟
°°- ثم إن الحكامة تفترض فاعلين "مستقلين" (بإزاء الدولة أو الجهة أو ما سواهما), كيف بهذه الحالة الاتكال على هؤلاء في غياب مسؤولية جماعية تكون مكمن الديموقراطية ومصدرها؟
لعل الحاصل من هذه المفارقات إنما الاعتقاد بأن الذي هو في المحك اليوم ليس الديموقراطية, بل " منظومة" الحكامة بكل تلاوينها وأشكالها... والسر في ذلك لا يكمن في كون الحكامة دخيلة على الديموقراطية, محاولة "لتجديدها من الداخل", ولكن لأن الذين يدفعون بها (الحكامة أعني) فكرا وممارسة... إنما هم آخر من يفكر فيها أو يعتمد القرارات اليومية منها كما الاستراتيجية على خلفية من قيمها.
يحيى اليحياوي: كاتب وأكاديمي من المغرب
elyahyaoui@elyahyaoui.org
الجمعة، 26 أكتوبر 2007
السبت، 20 أكتوبر 2007
| ||||||||||||
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)