الجمعة، 15 فبراير 2008

التعاون اللامركزي

تأملات في التعاون
اللامركزي

إعداد الطالبة الباحثة: سارة الخمال

التعاون اللامركزي؟

تصنيفات من أجل تحديد المفهوم التعاون اللامركزي؟

عادة ما تؤدي الملاحظة السطحية لظاهرة ما إلى استنتاجات مغلوطة، إما شديدة التبسيط أو بعيدة عن الواقع أو غير فعالة، و هذا ما يميز أغلب الدراسات التي تناولت التعاون اللامركزي، و لذلك و بالنسبة إلينا فإنه من الحكمة تخصيص المجال الكافي لتحديد مفهوم حديث و عناصره التي تمثل أساس كل تحليل قادم.
و تزداد أهمية هذه العملية مع توسع و تزايد أشكال العلاقات فوق الوطنية سواء للأشخاص العمومية اللامركزية أو لمختلف الكيانات المحلية غير الحكومية مما أعطا مجموعة من التسميات أنتجتها الممارسة.
على هذا الأساس فإن تحديدنا " للتعاون اللامركزي" ترتكز على تمييزه عن الممارسات الأخرى من خلال تصنيفه بناءا على أطرافه، موضوعه و جغرافيته.

أ: تصنيف على أساس الأطراف

يستمد التعاون اللامركزي معناه من نظام اللامركزية الإدارية نفسها، و استيعاب هذه المسألة يفيد كثيرا في تحديد الأطراف المعنية بعلاقات التعاون اللامركزي، حتى لا يصبح ذا حدود غير واضحة تشمل بهذا الوصف جميع أشكال التعاون غير الحكومي و غير المركزي.
و لذلك يمكن القول أن أطراف التعاون اللامركزي يجب أن تكون وحدات لامركزية، عمومية، و ترابية.
إن القول بأن أطراف التعاون اللامركزي هي ذات طبيعة لامركزية يقود إلى التمييز بين معنيين شائعين اليوم لمفهوم التعاون اللامركزي:
5 مفهوم أول، يمكن اعتباره واسعا، نكون على أساسه أمام تعاون لامركزي فقط عندما يكون أحد الطرفين أو الأطراف أو كلهم ذوي مرجعية محلية بغض النظر عن طبيعتهم القانونية، و هو المفهوم الذي تتبناه مؤسسات الاتحاد الأوروبي، و على رأسها الجنة الأوروبية عندما تدعو بالتعاون اللامركزي مثلا دعمها لإحدى الأعمال المنجزة من طرف فاعل محلي في دولة نامية يعتبر بشكل عام كفاعل غير مركزي، و لذلك تدخل في إطار التعاون اللامركزي مجموع أعمال التعاون و الدعم الذي قد تكون إحدى أطرافه جماعة محلية أو منظمة محلية غير حكومية أو جمعيات أو تعاونيات إلى غير ذلك من أشكال التنظيمات المحلية
6 مفهوم أضيق يقصر التعاون اللامركزي على فاعلين ذوي صفة الجماعات الترابية، أي على مكونات اللامركزية الترابية بمعناها المتداول، و من الطبيعي أن تتطور مثل هذا المفهوم في الدول الأم لتقاليد اللامركزية الإدارية و على رأسها فرنسا، بحيث يفرض المفهوم الفرنسي مثلا وجود الجماعات المحلية كما هي معروفة في نظام اللامركزية، بما يقصي الوحدات المحلية الممثلة للسلطة المركزية في إطار نظام اللاتركيز، بل يقتضي الأمر تمتع الجماعة بالشخصية المعنوية وما يترتب عليها من قيام هيئة محلية منتخبة بتمثيل المواطنين.
لكن هذا التصور للجماعات المحلية كأطراف حصرية للتعاون اللامركزية يصطدم بتنوع التنظيمات الإدارية للدول المختلفة و تخلفها في الدول النامية المستقلة حديثا، و لذلك يكون من المناسب هنا اعتناق ما اتجه إليه بفرنسا من خلال دورية20 أبريل 2001 و التي بموجبها يفهم من الجماعات المحلية الأجنبية، الجماعات و السلطات و المنظمات التي تمارس مهام ترابية أو جهوية و تعتبر كجماعات محلية في القانون الداخلي لدولتها.
و هكذا إذا كان المفهوم الأول للتعاون اللامركزي مفهوما واسعا فإنه كذلك أقل تحضيرا ووضوحا مما قد يجعله مصدرا لغموض و ارتباك لا يفيد في بنائنا النظري و يعرقل وضع مفهوم علمي متكامل للتعاون اللامركزي.
و عليه فإن الأطراف اللامركزية للتعاون اللامركزي يعني الجماعات المحلية بمختلف أنواعها، على أن هذا لا يقصي أمكانية مساهمة باقي الفاعلين المحليين باختلاف طبيعتهم، و لكن تحت مظلة الجماعة المحلية التي تكون المسؤول المباشر في هذه العلاقات.
و تستتبع تبني هذا المفهوم ضرورة توفر صفة أخرى في أطراف التعاون اللامركزي، و هي صفة العمومية، فإن كان المفهوم النظري العام للجماعة
يشير إلى تجمع بشري يتمتع بمؤسسته الخاصة، فإن صفة العمومية تمكن من إقصاء كل التجمعات ذات الطبيعة الخاصة.
و هناك معيارين لصفة العمومية؛ فمن جهة فإن أصل الجماعة العمومية يعود لقواعد القانون العام بما يشكل معيارا شكليا واضحا ، و لكن ومن جهة أخرى يوجد معيار مادي مهم، وهو عنصر المصلحة العامةl’intérêt public لأعمال الجماعة، و هو معيار أساسي في تحديد حالات التعاون اللامركزي للجماعات المحلية العمومية، بحيث تصبح أعمال التبادل التي تقوم بها إحدى الجماعات العمومية و التي تستجيب بشكل واضح لمعايير مختلفة بقوة عن المصلحة العامة، ورغم صعوبة تصور ذلك، غير مندرجة ضمن تصورنا لمفهوم التعاون اللامركزي.
إلى جانب خاصيتي اللامركزية و العمومية، فإن الطبيعة الترابية للجماعة العمومية هو شرط مركزي لتمييز التعاون اللامركزي، و يتعلق الأمر هنا بجماعات عمومية قائمة على أساس ترابي، إذ يتم تقسيم الدولة إلى وحدات ترابية مجزأة تتمتع بالشخصية المعنوية
Hubbertو هذا ما يتوافق مع ما ذكره أحد العمال الفرنسيين
من أنه من الخطأ أن نضع تحت تسمية التعاون اللامركزي العلاقات القائمة مباشرة بين المؤسسات العمومية اللامركزية كالجامعات و المستشفيات و كذلك أشكال التعاون الصناعي
أي كل أشكال التعاون و التبادل المباشر بين وحدات اللامركزية المصلحية أو المرفقية لدول مختلفة دون وساطة أي جماعة ترابية.
و كذلك فإن معيار الترابية يحدد مجال التعاون اللامركزي بما لا يسمح بتغطية كل الأشكال الإدارية الأخرى المنشأة من طرف القوانين الوطنية و التي و إن كانت تمثل مجموعة محلية فإنها ليست ذات طابع ترابي.
و من ذلك مثلا الجماعات العمومية اللغوية كتلك المنشأة في بلجيكا، و هي جماعة عمومية غير ترابية لا يمكن إدراج أعمال تعاونها مع جماعات لدول أخرى ضمن أشكال التعاون المركزي، و إنما يمكن إدراجها عموما في إطار مفهوم التعاون عبر الحدود للجماعات العمومية تحت دولتية
la coopération transfrontière entre collectivités publiques infra étatiques.
مثلما يقترحه احد الباحثين، و هو مفهوم واسع يشكل التعاون اللامركزي أحد أشكاله و أكثرها أهمية..
عموما فإن خصائص اللامركزية، العمومية و الترابية تتوافق و ما يعرف في النظام اللامركزي سواء في المغرب أو في فرنسا بالجماعات المحلية أو الجماعات الترابية و تجمعاتها و تكون لها صفة الأطراف الحصرية في تحمل مسؤوليات التعاون اللامركزي..
كذلك فإن التعاون اللامركزي من حيث الأطراف قد يأخذ شكلين أولهما شكل الاتفاق الثنائي بين جماعتين محليتين، و ثانيهما شكل اتفاق متعدد الأطراف عادة ما يأخذ شكل شبكة تجمع مجموعة من الجماعات المحلية المتفقة على التعاون في مجال معين و تكثر الشبكات هذه عادة في التجمعات الجهوية،. كشبكة المحركات الأربع لأوروبا في الاتحاد الأوروبي.
ب: تصنيف على أساس موضوع التعاون.

منذ بداية الأشكال الأولى للعلاقات فوق الوطنية للجماعات المحلية، عرفت مواضيع هذه العلاقات تطورات مهمة مع تطور حاجات و إمكانات التعاون لدى هذه الجماعات. و ظهور مفهوم التعاون اللامركزي، كشكل متقدم لهذه العلاقات، ارتبط ارتباطا بتطور جوهري في مواضيع التعاون و طبيعتها .
و كما رأينا فإن العلاقات الأولى التي جمعت جماعات محلية لدول مختلفة كانت مرتبطة بموضوع السلم و التعايش سواء بين شعوب الدول الأعداء خلال الحرب العالمية الثانية، أو بين شعوب المعسكرين الشرقي و الغربي خلال الحرب الباردة، و أخذت هذه العلاقات شكل التوأمة الذي تعبر بمعناها و شكلياتها الطابع الرمزي للعلاقة، و هذا المضمون الرمزي هو ما يميز موضوعيا التوأمة عن التعاون اللامركزي
أما في مرحلة ما بعد حركة الاستقلال و التحرر عبر العالم، فإن الجماعات المحلية لدول الشمال خاصة الأوروبية منها ستتجه نحو نظيرتها في الجنوب المتخلف من منظور تضامني و خيري. هذا التصور سيفتح الباب أمام اتفاقات التوأمة -التعاون، بحيث سيتم توسيع إطار التوأمة للاستجابة لحاجات المساعدة و الإعانة للجماعات المحلية للدول المتخلفة، بنفس المضمون التضامني و وفق نفس الرؤية الرمزية للتوأمة، و تأخذ مفهوم التعاون هنا معنى المساعدة العمومية للتنمية.Aide public au développement . بحيث كانت أعمال التعاون هذه استمرارا للسياسات الدولية خلال هذه الفترة و التي كانت موجهة نحو إعانة الدول المتخلفة على الإقلاع الاقتصادي. و هذا التصور الذي يقصر علاقات تعاون الجماعات المحلية هذه على موضوع المساعدة و الدعم من أجل التنمية في الدول النامية، لا زالت تتبناها المؤسسات الأوروبية في تصورها للتعاون اللامركزي عندما تعتبرها أعمال و مبادرات التنمية المستدامة التي تتم من طرف احد فاعلي التعاون اللامركزي بالمجموعة الأوروبية و في إحدى الدول النامية، و لا تشمل بذلك اتفاقات التعاون بين الجماعات المحلية الأوروبية أو المنتمية للدول المتقدمة، و هذا و مثلما يحصر الأطراف المحتملة للتعاون اللامركزي فإنها كذلك تحصر موضوع التعاون في المعنى الضيق لإعانة التنمية في علاقات شمال- جنوب.
و يتعلق الأمر هنا بغموض يجب رفعه، لأن مثل هذا المفهوم لا يرتبط بتاتا بواقع التعاون اللامركزي و بشكل أقل بتطور التعاون اللامركزي شمال – شمال و في اتجاه أوروبا الوسطى و الشرقية، و التعاون اللامركزي من أجل إعانة التنمية يمكن أن يكون إحدى توجهات جماعة معينة و لكنه لا ينطبق على مجموع أنشطة التعاون لدى الجماعات المحلية.
إن التعاون اللامركزي هو آلية من آليات تدبير الشأن المحلي و مواجهة حاجات التنمية المحلية بمفهومها الواسع لدى أطراف التعاون، و البحث عن تدبير أفضل للمشاكل المحلية و المشتركة، و هو بذلك يتعلق بمجالات جد متنوعة كالتدبير المشترك للأموال و الخدمات، التعاون الحدودي لتدبير المشاكل المشتركة و التعاون بين الجهوي و ليس فقط أعمال التنمية كما يتصوره المفهوم الأوروبي
و قد تذهب بعض التصورات بعيدا في تحديد موضوع التعاون اللامركزي و طبيعته، و تعني هذا بالأساس تلك التي تعتبر أن الجماعات المحلية تتوفر في إطار التعاون اللامركزي على اختصاص دولي …compétence internationale سيضع حدا أمام آخر السلطات الحضرية للدولة اليعاقبية(المركزية) l’état jacobinو هي احتكار تمثيل المصالح الوطنية على المستوى الدوليو أثر مثل هذا التصور حتى في المفهوم، بحيث أصبحت توصف مثل هذه العلاقات بالتعاون الدولي للجماعات المحلية أو التعاون الجماعي الدوليأو كذلك
العلاقات الدولية للسلطات المحليةأو حتى الدبلوماسية المحلية.
و الحقيقة أن مثل هذه النعوت بعيدة عن الدقة العلمية و عن واقع التعاون اللامركزي، و توسيع غير مبرر لمواضيع التعاون اللامركزي – كموضوع للقانون الإداري أساسا- ليشمل المواضيع التقليدية للعلاقات الدولية حيث تقتصر الشخصية المعنوية الدولية على الدول، مستمدة من مفهوم السيادةla souveraineté و المرتبطة وجودا و عدما بوحدة الدولة، باعتبار أن السيادة لا تؤخذ بعين الاعتبار للالتزام في العلاقات الدولية إلا في وحدتها
و التقسيم الإداري ليس تجزيئا لسيادة الدولة، كما أن اختصاصات التدبير المحلي ليست منحا للسيادة، فهذه الأخيرة وضع قانوني يثبت للدولة بمجرد توفر مقوماتها المادية من مجموعة أفراد و إقليم وهيئة منظمة حاكمة، و تكون للدولة نتيجة سيادتها هذه الحق في مباشرة كافة الاختصاصات المتصلة بوجودها كدولة سواء في داخل إقليمها و في صلتها برعاياها، أو في خارج الإقليم في اتصالها بالدول الأخرى و المجتمع الدولي.
في حين فإن الاختصاص لا يستند على وجود الجماعة المحلية بحد ذاتها و إنما على النصوص القانونية المنشئة للاختصاص (قوانين اللامركزية).
كذلك فإنه وإذا كانت من خصائص السيادة الحصرية l’exclusivité الكمالplénitudes والاستقلال l’autonomie فإن من الواضح انتفاء هذه المميزات عن الاختصاصات الممنوحة للجماعات المحلية و التي لا يمكن تصورها، كوحدات ترابية، شخصا من أشخاص القانون الدولي ، خاصة بالنسبة للدول الموحدة كالمغرب و فرنسا.
على أنه و إن كان التمثيل الدبلوماسي مظهرا من مظاهر السيادة و ما يعنيه ذلك من احتكاره من طرف الدولة المركزية، فإن ذلك لا ينفي إمكانية استعانة الدولة بالجماعات للدفاع عن القضايا الوطنية أمام المجتمع الدولي أو غير ذلك من قبيل ما ورد في الخطاب الملكي في 6 من نونبر 2004 من دعوة للأحزاب السياسة و الجماعات المحلية و كل القوى الحية للالتزام بالدفاع عن قضية الوحدة الترابية دعما و تكلمه للمجهودات المبذولة من طرف الدبلوماسية الرسمية، غير أن هذا لا يمت بصلة للتعاون اللامركزي.
على مستوى موضوع التعاون اللامركزي كذلك، فان أهم ما يميزه هو الطابع التعاقدي، إذ تأخذ شكل اتفاق للتعاون اللامركزي ، يشمل التزاما بين الطرفين بنيات معينه أو انجاز أعمال محددة، و هو ما يميزه عن باقي أشكال التبادل، كالتوأمة و المساعدات الإنسانية... و غيرها من أشكال المبادلات الرمزية و التضامنية التي يمكن أن تنشأ بين جماعات محلية في دول مختلفة. و لذلك عادة ما يشار إلى الظاهرة باتفاقات التعاون اللامركزي.

ج:تصنيف على أساس جغرافي.

يمكن المعيار الجغرافي من تمييز التعاون اللامركزي عن مجموعة من أشكال التعاون بين الجماعات المحلية، و التي إما أنها تختلف جذريا عن التعاون اللامركزي أو قد لا تشكل إلا أحد أشكاله، أو تقصر التعاون على مستوى معين من الجماعات المحلية.
و لا شك أن التعاون بين الجماعات المحلية هي ممارسة قديمة قدم التنظيم اللامركزي ذاته، بحيث أن التقطيع الترابي للدولة لم يكن ليعني أن كل وحدة ترابية ستستقل بمشاكلها و تدبيرها بمعزل عن الآخرين. و منذ قوانين اللامركزية الأولى، ترجم المشرع المغربي هذه الفكرة عندما أولى لتقنية التعاون الجماعي أهمية في مختلف القوانين المتعلقة بالتنظيم اللامركزي منذ سنة 1960 وصولا إلى القانون رقم 78.00 فتجده يخصص الباب السابع من قانون 78.00 المتعلق بالميثاق الجماعي للتعاون بين الجماعات الحضرية و القروية، و كذلك الباب السابع من قانون 79.00 المتعلق بتنظيم العمالات و الأقاليم، أو المادة 6 من الميثاق الجهوي حيث يتم إنشاء علاقات التعاون فيما بين الجهات بإذن من وزير الداخلية حيث تعتبر لجان التعاون المشتركة بين الجماعات مؤسسات عامة تطبق عليها القواعد المالية و المحاسبية للجماعات المحلية.
و اعتبارا كذلك أن اللامركزية تنتج توزيعا أكثر منه تقسيما فعليا للاختصاصات فإنه من الضروري التعاون كذلك بين مختلف مستويات اللامركزية بهدف التنسيق فيما بينها سواء لتجنب الازدواجية و التكرار و لتحقيق فعالية أكبر لتدخلاتها، و هذا الشكل من التعاون هو الذي يعبر عنه المشرع المغربي في قوانين اللامركزية الأخيرة بمجموعة الجماعات المحلية
إن كل أشكال التعاون هذه بين الجماعات المحلية داخل الدولة الواحدة لا ترتبط بموضوع التعاون اللامركزي، فهي تقوم في إطار نظام إداري و قانوني واحد و وفق تشريع واحد، و لا يعبر بأي شكل من الأشكال عن أية علاقة فوق وطنية للجماعات المحلية، بما جعل ممارساتها مستقرة على طول سنوات اللامركزية وفق قواعد واضحة و ثابتة.
في المقابل فإن التعاون اللامركزي – كمفهوم حديث ارتبط بتطور العلاقات فوق الوطنية للجماعات المحلية- يستمد خصائصه، عناصره و إشكالاته من خاصية تجاوز الحدود الوطنية، و التعامل بين وحدات محلية تنتمي لأنظمة إدارية و قانونية مختلفة أو بشكل عام لدولتين مختلفتين.
و من الناحية الجغرافية، فإن التشارك في الحدود كان من المبررات الأولى للتعاون بين جماعتين محليتين لدولتين متجاورتين، و هي كما رأينا ممارسة برزت بأوروبا في إطار دور الجماعات المحلية في تحقيق الوحدة الأوروبية وفق ما يعرف بالتعاون الحدودي coopération transfrontalière الذي أطرته من الناحية التنظيمية اتفاقية مدريد لسنة 21 ماي 1980 في إطار مجلس أوروبا و بمبادرة منه.
و يبدو واضحا وجود شرط الجوار في أعمال التعاون الحدودي، بحيث يقتصر على الجماعات المحلية الأوروبية ذات الحدود المشتركة، و هو ما يؤكده قانون اللامركزية الفرنسي سنة 1982. و هذا الشرط الجغرافي يقيد أشكال التعاون بين الجماعات المحلية المنتمية لدول مختلفة، لذلك فإنه أضيق من مفهوم التعاون اللامركزي الذي لا يضع أي شرط جغرافي أمام التعامل بين جماعتين أو أكثر لدولتين أو أكثر.
و قد كان هذا الشرط الجغرافي حافزا أمام الفقه الأوروبي لمحاولة وضع مفهوم يسمح للجماعات المحلية بتجاوز العلاقات الحدودية، و لذلك فقد تبنى هذا الفقه مؤخرا مفهوم التعاون بين الجهوي coopération interrégionale و الذي بدا واعدا بمستقبل جديد، اعتبارا أن المؤسسات الأوروبية تبنته كأساس لتعريف مفهوم جديد للعلاقة بين الجماعات العمومية تحت الدولتية لا يرتكز على الجوار.
غير أن هذا المفهوم و إن كان قد مكن من تجاوز عائق الجوار، فإن "التعاون الجهوي" يحيل على الجماعات المحلية الجهوية فقط، في حين أن واقع العلاقات العابرة للإطار الضيق للجوار ليس محددا في الجهات، و إنما يشمل جميع مستويات اللامركزية و عموما كل الجماعات المحلية.
و هذا الشكل من العلاقات الذي يتجاوز الشرط الضيق للجوار كما في التعاون الحدودي أو حصرية التعاون على الجهات كما هو في التعاون بين الجهوي هو ما يمكن جمعه في مفهوم التعاون اللامركزي، و الذي يحيل بكل بساطة على التعاون بين مختلف الوحدات اللامركزية لدى دولتين مختلفتين أو أكثر و بغض النظر عن موقعها سواء كانت متجاورة أم لا.
و عليه فمن الناحية الجغرافية، يختلف التعاون اللامركزي عن التعاون بين الجماعات المحلية الوطنية أو ما يعرف بالتعاون الجماعي اختلافا مفصليا، في حين هو أوسع من التعاون الحدودي و التعاون بين الجهوي اللذان ليسا إلا شكلان من أشكاله.

2: التنظيم القانوني للظاهرة على المستوى الجهوي:
أ:على المستوى الجهوي: نموذج الاتحاد الأوروبي

ليس من المستغرب هنا اختيار نموذج الاتحاد الأوروبي، خاصة بعدما أشرنا خلال دراستنا للدعمات النظرية المساهمة في تطوير الظاهرة إلى التأثير الهام و المباشر للبناء الأوروبي على تطوير ممارسات التعاون اللامركزي، كذلك فإن الفضاء الأوروبي كان مجالا لتنظيم حقيقي لأعمال التعاون اللامركزي، في حين اكتفت تجارب أخرى(البحر الأبيض المتوسط، أمريكا الجنوبية...) فقط بتشجيع مشاركة الجماعات و الديمقراطية التشاركية شكل عام.
لقد كان الفضاء الأوروبي مجالا لتطور العلاقات الخارجية للجماعات المحلية، بحيث اقتضت الوحدة الأوروبية و رأب الصدع بين شعوب القارة تكثيف العلاقات القاعدية بين الجماعات المحلية، بداية من خلال أعمال التوأمة، ثم من خلال تعاون فعلي تركز أساسا بين الجهات المتحادية حدوديا لتدبير بعض الشؤون المشتركة بينها، كل ذلك خارج أي حد أدنى من التنظيم القانوني، باستثناء ربما الاستناد على مبادئ اللامركزية المحلية مثلما تبنتها قوانين التنظيم الترابي لهذه الدول.
و إدراكا لأهمية علاقات التعاون هذه من جهة و لتزايد ممارساتها، بادر مجلس أوروبا إلى اقتراح اتفاقية صادق عليها أعضاء المجموعة الأوروبية في 21 ماي 1986 بمدريد، و شكلت اتفاقية مدريد هذه الآلية القانونية الأولى المؤسسة لشرعية التعاون بين جماعات محلية لدول مختلفة، و إن كانت لا تتعلق سوى بالتعاون الحدودي للجماعات المحلية، مثلما أن نصوص لاتفاقية لم تزل محتشمة نسبيا، و ذلك فيما يخص تنظيم تفاصيل التعاون و تحديد الجماعات المحلية المعنية بالالتزام في التعاون. و هي بذلك لم تصل إلى مستوى تأسيس أي اختصاص للجماعات المحلية في هذا المجال، و إنما أحالت المادة 3 من الاتفاقية على القانون الوطني لكل دولة في ما يخص تحديد الجماعات المحلية المرخص لها بالالتزام في ممارسات التعاون الحدودي.
و في المقابل أشارت الاتفاقية إلى المجالات التي يمكن أن تكون موضوعا للتعاون( التنمية الجهوية، التنمية الحضرية و القروية، حماية البيئة، تطوير البنى التحتية و الخدمات المقدمة للمواطن و التعاون المتبادل في حالة الكوارث).
و الملاحظ أن نصوص الاتفاقية كانت ذات طابع اقتراحي فقط بحيث تعطي للجماعات المحلية الحرية في تدبير أشكال تعاونها، فكان من الضروري أمام الدول الأطراف لتغطية هذا الفراغ الإسراع بإبرام اتفاقات ثنائية ،كاتفاقية بايون الفرنسية الاسبانية في 10 مارس 1995 و اتفاقية روما الإيطالية الفرنسية في 26 نونبر 1993، أو متعددة الأطراف أهمها اتفاقية karlsruheفي 23 يناير 1996 جمعت كلا من فرنسا، ألمانيا، لكسمبورغ و سويسرا.
و قد كان تعدد هذه الاتفاقيات و عدم توحد شكلياتها حافزا أمام مجلس أوروبا لإصدار بروتوكولين إضافيين ذوي أهمية بالغة، يستمد الأول أهميته من تأكيده على إمكانية إنشاء تنظيمات للتعاون غير الحدودي ذات شخصية معنوية أو دونها، و سواء من أشخاص القانون العام أو الخاص، و تطبيق القانون الوطني للدولة حيث مقر التنظيم. أما البروتوكول الثاني المتبنى سنة 1998 فيستمد أهميته من توسيعه لمجال التعاون اللامركزي و عدم حبسه في علاقات الجوار في إطار التعاون الحدودي، و ذلك عند ما يعرف ما يسميه بالتعاون بين الترابيcoopération interterritoriale بأنه كل تشارك يستهدف تأسيس علاقات بين الجماعات أو السلطات الترابية للطرفين أو الأطراف المتعاقدة، تختلف عن علاقات التعاون الحدودي للجماعات المتجاورة و تضم عقد اتفاقيات مع الجماعات أو السلطات الترابية لدول أخرى.
و ساهم البروتوكولين في توحيد آليات التعاون اللامركزي داخل المجال الأوروبي و خاصة في اقتراح و توحيد الأشكال القانونية للتعاون، و ذلك مثلما ساهمت الاتفاقيات الدولية بين الدول الأوروبية في تطوير التنظيم القانوني للظاهرة و ابتكار تنظيمات جديدة لها. مثلما فعلت اتفاقية Karlsruhe عندما اقترحت على الجماعات المحلية للدول المتعاقدة فيها إمكانية خلق " مجموعة محلية للتعاون الحدودي" « groupement local de coopération transfrontalière » من أجل القيام بالمهام و الخدمات التي تمثل مصلحة لكل منهم (المادة 11، الفقرة الأولى)على أن تكون ذات شخصية معنوية عامة و أهلية قانونية و استقلال مالي(المادة 11 الفقرة2).
و تعطي مثل هذه الأمثلة فكرة واضحة عن دور مثل هذه الاتفاقيات الدولية في تقرير بعض المقتضيات الهامة في التنظيم القانوني للظاهرة، و التي ستكون دافعا لتبني التشريعات الوطنية للدول الأوروبية نصوص لصالح ظاهرة التعاون اللامركزي عموما.
لقد قطع التنظيم الدولي للتعاون اللامركزي شوطا كبيرا داخل الفضاء الأوروبي، في المقابل فإن اتفاقات أخرى خارج إطار الاتحاد الأوروبي تناولت موضوع التعاون اللامركزي بشكل أقل تقدما، بحيث لم تتعد مجرد تشجيع ممارساته و التأكيد على دوره في التنمية خاصة بالدول النامية.
و حتى في أغلب هذه الاتفاقات فإن وجود الاتحاد الأوروبي كشريك هو الذي كان وراء دعم فكرة التعاون بين الجماعات المحلية للدول الأوروبية و نظائرها خاصة في دول الجنوب إلى جوار التعاون المركزي بين الدول.
و يبرز ذلك جليا في الشراكة الأوروبية مع دول إفريقيا و الكاريبي و الهادي ACP، بحيث يعترف الموقعون على اتفاقية لومي الرابعة و في مادتها الثانية عشر، بقدرة أطراف التعاون اللامركزي على إضافة مساهمة إيجابية لتنمية دول إفريقيا و الكاريبي و الهادي (ACP) ، و هو ما يفرض على الأطراف تكثيف الجهود من أجل تشجيع مساهمة الأطراف(الجماعات المحلية) في الجانبين في أنشطة التعاون.
كذلك يمكن أن نجد مظهرا آخر لرغبة الاتحاد الأوروبي تشجيع اللامركزية و التعاون اللامركزي وذلك في شراكته مع دول إفريقيا الكاريبي و الهادي المنظمة اليوم وفق اتفاقية كوطونو (23 يونيو 2000)؛ حيث تثمين دور السلطات العمومية المحلية هو أحد الجوانب المهمة فيه، إذ تعتبر الجماعات الترابية غير الدولة في عداد الفاعلين في الشراكة (المادة 6) كما يركز الاتفاق على مسألة الديمقراطية المحلية و يحث على تنمية التعاون اللامركزي.
نفس المنطق الذي يستهدف تشجيع مشاركة الجماعات المحلية في الشراكات الجهوية تجده على مستوى البحر الأبيض المتوسط، و ذلك من خلال برامج الشراكة الأخيرة و خاصة INTERG III .
لكن كل هذه الاتفاقات تقف عند حدود تشجيع أعمال التعاون اللامركزي و تثمين دورها، و ليس وضع قواعد منظمة لها، و هذا اعتبارا لقصر التجربة و بدائيتها، إضافة إلى هيمنة فكرة التضامن و المساعدة لدول الجنوب على فلسفة هذه الشراكات.
كل ذلك على خلاف تطور التعاون بين الجماعات المحلية داخل أوروبا و الذي يفرض تدخل المشرع الأوروبي لتنظيمه وفق مبادئ و قواعد ستجد صداها في التنظيم الوطني للظاهرة.

ب: التنظيم القانوني للتعاون اللامركزي في المغرب:

منذ السنوات الأولى للاستقلال بدت اللامركزية خيارا مركزيا في النظام الإداري المغربي، فمبدأ اللامركزية الترابية تمت دسترته منذ 1962،حيث حدد الدستور الجماعات المحلية و جعل تسييرها يتم عن طريق مجالس منتخبة.
و رغم أن اللامركزية المغربية في سنواتها الأولى بدت محتشمة إلى حدود كبيرة. فإن ذلك لم يمنع مجموعة من المدن المغربية كفاس و الدار البيضاء و الرباط من ربط علاقات مع نظيراتها بدول أخرى في إطار التوأمة. إلا أنه و ابتداءا من سنة 1976 تكثفت العلاقات فوق الوطنية للمدن المغربية و شملت مجموعة أكثر الجماعات.
و من الواضح ارتباط هذه العلاقات مع تطور الإطار التنظيمي للامركزية و توسيع مهام الجماعات المحلية(الجماعات الحضرية و القروية الخاصة) في إطار ظهير 30 دجنبر 1976. لكن مراجعة الظهير تبرز غياب أي مقتضى يشير من قريب أو بعيد لهذه العلاقات، بحيث أن كل نصوص اللامركزية خلال هذه المرحلة تشير فقط إلى آليات التعاون الداخلي في شكل نقابات أو مجموعات حضرية.و عليه فقد نمت الأعمال الخارجية للجماعات المحلية خارج أي تأطير قانوني شأنها شأن أغلب التشريعات الوطنية في مختلف الدول الأوروبية.
وأمام هذا الفراغ التشريعي تطورت هذه العلاقات خاصة على شكل التوأمة، التي أصبحت أعدادها في تطور متزايد، مما استدعى تدخل الحكومة لتنظيمها، وذلك من خلال دورية وزير الداخلية رقم17/DCL/DAL/2 في 21 يناير 1986 و التي وضعت مسطرة لإبرام التوأمات، و بناءا على الدورية فإن الجماعات ملزمة بتقديم تقرير مفصل حول الجماعات الأجنبية المقترحة لوزير الداخلية، تتضمن تفاصيل حول جغرافيتها حياتها الاقتصادية و الاجتماعية و كذلك معالمها المشتركة مع المدينة المغربية.
و بناءا على موافقة مبدئية من وزير الداخلية على مشروع التوأمة هذا، يقوم المجلس الجماعي بالتداول بشأن الموضوع، فإذا تم التصديق بالإيجاب على المشروع، يكون على المجلس الجماعي إدخال المصاريف الضرورية لإقامة مراسيم التوأمة في الميزانية الجماعية، لكن و حتى بعد ذلك فإن دخول التوأمة محل النفاذ تتوقف على مصادقة وزارة الداخلية بعد موافقة الديوان الملكي.
و تبدو واضحة التعقيدات المسطرية وقوة الرقابة التي كانت تخضع لها أعمال التوأمة، مما جعل منها أعمالا استثنائية بحيث عادة ما كانت ترتبط إقامة مراسيم التوأمة بعيد وطني أو تظاهرة ثقافية أو سياحية.
و لم يكن لذلك من الممكن القول بأن مثل هذه العلاقات الخارجية للجماعات المحلية كانت اختصاصا أصيلا للجماعات المحلية في إطار نظام اللامركزية.
و دائما في إطار فراغ تشريعي ينظم هذه العلاقات التي يمكن أن تنشأ من الجماعات المحلية الوطنية و نظيرتها الأجنبية، سيخطو الميثاق الجهوي سنة 1997 خطوة هامة في اتجاه دعم القدرة التعاقدية للجهة التي أصبحت مع التعديل الدستوري الأخير جماعة محلية، إذ يمكننا ملاحظة إشارة المشرع إلى مجموعة من المفاهيم التي تستوجب اللجوء إلى التقنية التعاقدية؛ و هو الحال مثلا في إمكانية التعاون مع الدولة و الجماعات المحلية الأخرى لأداء الجهة لمهامها (المادة 1 الفقرة 2) أو الاستفادة من مساهمات الدولة و الأشخاص المعنوية العامة الأخرى أو في إطار التعاون بين الجهوي (المادة 6 الفقرة 4).
و قد كان يجب انتظار صدور قانوني رقم 78.00 بمثابة ميثاق جماعي و القانوني رقم 79.00 المتعلق بتنظيم العمالات و الأقاليم في 3 أكتوبر 2002، لوضع أول أساس قانوني منظم لمختلف أشكال الأعمال الخارجية و التبادل مع الجماعات الترابية الأجنبية، و ذلك في إطار عام من تعميق نسبي للامركزية، من خلال توسيع مسؤوليات الجماعات المحلية، و كذلك في إطار دعم لأهمية تقنية الشراكة و التعاون في تدبير الشأن المحلي.
و هكذا تنص المادة 42 من قانون 78.00 على أن المجلس الجماعي يقوم " بجميع أعمال التعاون و الشراكة التي من شأنها أن تنعش التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية للجماعة، و ذلك مع الإدارة و الأشخاص المعنوية الأخرى الخاضعة للقانون العام و الشركاء الاقتصاديين و الاجتماعيين الخواص، أو مع كل جماعة أو منظمة أجنبية" و من الواضح هنا أن هذا المقتضى يعني أن المشرع يعتبر ضمنيا التعاقد- باعتبارها آلية للتعاون و الشراكة مع مختلف الأطراف- كرافعة من رافعات التنمية الاجتماعيةو الاقتصادية و الثقافية للجماعة، مثلما يفتح المجال أمام التعاقد من أجل التعاون و الشراكة مع مختلف الأطراف سواء الوطنية منها أو الأجنبية على رأسها الجماعات أو المنظمات الأجنبية.
و تضيف المادة نفسها – و هو ما يهمنا أكثر هنا- أنه " و لهذه الغاية:... يدرس و يصادق على اتفاقيات التوأمة و التعاون اللامركزي، و يقرر الانخراط و المشاركة في أنشطة المنظمات المهتمة بالشؤون المحلية و كل أشكال التبادل مع الجماعات الترابية الأجنبية، بعد موافقة السلطة الوصية، و ذلك في إطار احترام الإلتزامات الدولية للمملكة، غير أنه لا يمكن إبرام أي اتفاقية بين جماعة أو مجموعة للجماعات المحلية و دولة أجنبية".
و تدرج المادة 69 من الميثاق الجماعي الجديد اتفاقات التعاون اللامركزي مع الجماعات المحلية الأجنبية في لائحة مقررات المجلس الجماعي التي لا تكون قابلة للتنفيذ إلا إذا صادقت عليها سلطات الوصاية.

إن قراءة متفحصة لهذه النصوص و تحليلها يمكن من تسجيل مجموعة من الملاحظات المهمة، و التي يمكن اعتبارها المعالم الرئيسية لتنظيم المشرع المغربي للتعاون اللامركزي، و نجمعها في :
4 أورد المشرع أعمال التعاون اللامركزي ضمن الاختصاصات الذاتية للجماعة، و التي تمارسها في إطار اتخاذ التدابير اللازمة لضمان تنميتها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية،و هو بذلك يتجاوز الصفة الاستثنائية و الرمزية التي كانت تميز أشكال المبادلات مع الجماعات المحلية الأجنبية، و يجعل من التعاون اللامركزي آلية من آليات تدبير قضايا الجماعة و الدفع بالتنمية المحلية بصفة عامة. هذه الأخيرة التي أصبح من الممكن تدبيرها في إطار علاقات تتجاوز الحدود السياسة للمغرب.
5 يميز المشرع المغربي بين التعاون اللامركزي و التوأمة و الانخراط و المشاركة في أنشطة المنظمات المهتمة بالشؤون المحلية، باعتبار كل واحد منها شكلا من أشكال التبادل التي يمكن أن تربط الجماعة الوطنية مع إحدى أو مجموعة من الجماعات الترابية الأجنبية. و هو مصيب في ذلك باعتباره يستجيب لاختلاف و التمايز الموضوعي بين هذه الأشكالو يتجاوز بذلك تعثر المشرع الفرنسي في الباب الرابع من قانون 6 فبراير 1992.
6 يعطي المشرع صراحة للجماعة الحضرية أو القروية(قانون 78.00) و لمجالس العمالات و الأقاليم (قانون 79.00)، اختصاص إبرام اتفاقات التعاون اللامركزي، لكنه لا يفعل ذلك بالنسبة لمجموعة الجماعات كما فعل المشرع الفرنسي . و هو ما قد يطرح التساؤل حول مدى إمكانية عقد مجموعة من الجماعات لاتفاقات التعاون اللامركزي، و مما يزيد من غموض المسألة هو إشارة المشرع في آخر الفقرة إلى مجموعة الجماعات بالقول:"... غير أنه لا يمكن إبرام أي اتفاقية بين جماعة أو مجموعة للجماعات المحلية و دولة أجنبية"، بما يفيد عدم احترامه للتوازي داخل النص القانوني فيما يخص مجموعة الجماعات. لكن يمكن أن نستشف ضمنيا من خلال هذه الجملة الأخيرة أن المشرع يسمح لمجوعة الجماعات بإبرام اتفاقات التعاون اللامركزي ،ما دام يمنعها مثلما يمنع الجماعة المحلية من إبرام اتفاق مع دولة أجنبية، غير أن هذا لا يعفي المشرع من ضرورة الإشارة الصريحة إلى قدرة مجموعة من الجماعات على إبرام اتفاقات التعاون اللامركزي.
7 على غرار المشرع الفرنسي فقد حدد شركاء الجماعة في أعمال التعاون اللامركزي مثلما هو الشأن لباقي أشكال التبادل الأخرى- في الجماعات الترابية الأجنبية، و لم يستعمل النص كما هو واضح مفهوم الجماعات المحلية و إنما الجماعات الترابية للتأكيد على الطابع الترابي للشريك و تجاوز إمكانات اتساع مفهوم الجماعة المحلية إلى غير ذلك، كما يقصر النص الشركاء على الجماعات الترابية تحت دولتية، و يقصي صراحة إمكانية التعاقد مع دولة أجنبية، باعتبار ذلك من اختصاصات الدولة المغربية كشخص من أشخاص العلاقات الدولية و القانون الدولي. و في نفس الإطار فإن اتفاقات التعاون اللامركزي سواء للجماعات الحضرية أو القروية أو المجالس العمالات و الأقاليم يجب أن يحترم الالتزامات الدولية للدولة، ما يعني أنها يجب أن تأخذ بعين الإعتبار السياسة الخارجية للدولة و التي تنفرد بتحديدها السلطات المركزية المختصة.
8 تخضع اتفاقات التعاون اللامركزي لرقابة مستمرة من سلطات الوصاية و ذلك على طول مسطرة إبرام الاتفاقية، بحيث تتوقف دراسة المجلس للاتفاقية و المصادقة عليها على موافقة قبلية من سلطات الوصاية كما توضح ذلك المادة 42 من قانون 78.00 و المادة 36 من قانون 79.00، و إضافة إلى هذا الإذن المسبق تخضع اتفاقات التعاون اللامركزي للقاعدة العامة للوصاية القبلية التي لا زالت مبدأ في اللامركزية المغربية عموما؛ بحيث تندرج اتفاقات التعاون اللامركزي ضمن المسائل التي لا تكون المقررات الخاصة بها قابلة للتنفيذ إلا إذا صادقت عليها سلطات الوصاية،و وفقا للمادة 73 من قانون 78.00 فإن اختصاص المصادقة يكون لوزير الداخلية بالنسبة للجماعات الحضرية و للوالي أو العامل بالنسبة للجماعات القروية. و يكون لوزير الداخلية اختصاص المصادقة على هذه الاتفاقات بالنسبة لمجالس العمالات و الأقاليم وفقا للمادة 60 من قانون 79.00، مع العلم أنه و بالنسبة للعمالات و الأقاليم فإن اختصاص إبرام اتفاقيات التعاون اللامركزي ممنوح للعامل إستنادا على مقررات مجلس العمالة أو الإقليم باعتباره الجهاز التنفيذي لها.
و إذا كان الأمر كما رأيناه بالنسبة للجماعات الحضرية و القروية و العمالات و الأقاليم، حيث تدارك تحيين نصوصها الفراغ التشريعي حول التعاون اللامركزي، فإن الإطار التنظيمي للجهة(قانون 96-47) لا يشمل أي إشارة صريحة لإمكانية إبرام لاتفاقات التعاون اللامركزي، و إن كانت على مستوى الواقع من أنشط الجماعات المحلية في مجال التعاون اللامركزي.
غير أنه و اعتبارا لصفتها كجماعة محلية ذات شخصية معنوية و استقلال مالي، مسيرة بشكل مستقل من طرف مكتب تداولي ، فلا شيء يمنع مجالس الجهات من تطوير و تنمية علاقات الصداقة و التعاون مع نظيراتها الأجنبية و الاستناد في ذلك على الآليات القانونية التي وضعها القانون في هذا المجال لصالح الجماعات المحلية الأخرى. و في هذا الإطار فان دورية هي في عداد الإنجاز، تقول وزارة الداخلية أنها تستهدف توضيح قواعد التعاون اللامركزي... على مستوى الجهات ووضع مسطرة مصادقة مرنة تسمح للجهات باستفادة أفضل من المبادرات المتخذة في هذا الإطار.
يبدو إذن أن المشرع المغربي قد وضع أخيرا الحد الأدنى من التأطير القانوني للتعاون اللامركزي، و ذلك استجابة لتطور ممارساته و تزايد أهميتها في عمل الجماعات المحلية في إطار تدبيرها للشأن المحلي، لكن تزايد أهمية أعمال التعاون اللامركزي تفرض تطوير النصوص القانونية المنظمة لها، و تفصيل الآليات و الأشكال القانونية التي يمكن أن تلجأ إليها الجماعات المحلية في أعمال التعاون اللامركزي، مثلما فعل المشرع الفرنسي، و من المهم هنا كذلك تطور تدخل القضاء الإداري المغربي من أجل تثبيت الحق في التعاون اللامركزي و قواعده و تطوير اللامركزية المغربية عموما.

3: الحكامة المحلية و التعاون اللامركزي

إن الكشف عن حقيقة دور التعاون اللامركزي في تقوية حركية الحكامة المحلية تفترض بداية التصدي إلى الدور المركزي للجماعات المحلية- وهي الأطراف الحصرية للتعاون اللامركزي – في قيادة مسلسل المشاركة و التواصل داخل المجال المحلي ، قبل مقاربة إضافات التعاون اللامركزي لجهود الجماعة المحلية في تقوية مسلسل الحكامة المحلية
أ: الجماعات المحلية حجر الزاوية في مسلسل الحكامة المحلية
يوفر المجال المحلي الفرصة الأهم لتفعيل نظريات الحكامة، إذ يوفر إمكانيات واقعية للمشاركة، و مؤسسات وساطة أكثر قربا من الساكنة و من المشاكل نفسها، تعطي للمواطن فرصة تحمل المسؤولية و الالتزام من القاعدة.
و تسمح هذه المقاربة الترابية المحلية من تحريك الموارد و المشاركة المباشرة لكل الساكنة، بحيث يصبح التراب المحلي نقطة انطلاق مسلسل يسمح بتفعيل الموارد البشرية و المادية التي يضمرها، و التوصل إلى التوافق الضروري من أجل استغلالها.
كما يسهل المجال المحلي تحقق شرط التفاعل الذي تقوم عليه التنمية المستدامة، إذ تعتبر المدينة مثلا نموذجا لتحقيق أكبر قدر ممكن (maximiser) من التفاعل المجالي، باعتبارها توفر عامل القرب المهم و المسهل للاتصال، و لذلك فإن المدينة – كأهم مجال ترابي محلي- باعتبارها المكان المركزي للتفاعل و التبادل الاجتماعي تفرض نفسها كمؤسسة إنسانية مركزية، سيتم المراهنة حولها و داخلها على النمو و التنمية المستدامة.
إن المقاربة الترابية للتنمية المستدامة تجعل من " المحلي" المجال المناسب لبرامجها و استراتيجياتها، و تعكس الحاجة إلى " التفكير كونيا و التصرف محليا" « penser globalement et agir localement » ، و ذلك اعتبارا للمجال المحلي كنسق تسهل فيه تقوية فعالية الموارد الطبيعية، الإنسانية أو من أي نوع آخر.
و في هذا الإطار المحلي تعول الحكامة المحلية على تفعيل دور الفاعلين الوسطاء الأقرب للمواطنين و الممثلة لجميع شرائحهم، و إشراكهم حول مشروع شمولي موحد.
و بين كل الفاعلين المحليين، يلعب الفاعلون المؤسساتيون عادة دورا محوريا في بناء الحكامة المحلية، خاصة من خلال الخاصية الشكلية للمؤسسة و قدرتها على التنشيط و الربط بين الفاعلين الآخرين...، و لذلك فإن استراتيجيات التنمية المحلية المستدامة تضمن موقعا و دورا هاما لمختلف التنظيمات و المؤسسات المحلية، في إطار توافق عام حول الأهداف.
لكن رغم وجود عدة وسطاء ممكنين في إطار اقتصاد لا مركزي (جمعيات، منظمات تمثيلية، نقابات…)، فإن الجماعات المحلية تبقى الوسيط النموذجي، و ذلك باعتبار دورها في تحديد قواعد النشاط .. إضافة إلى السبب الأخر المتمثل في شرعية المنتخبين المحليين المكتسبة من خلال الانتخاب العام ،و كذلك المهام الموكولة للجماعات الترابية بصفة عامة
و لذلك فإنه، و رغم ضرورة إدماج مجموع الفاعلين الاقتصاديين و الاجتماعيين المحليين (المصالح اللاممركزة، الغرف المهنية، المقاولات المحلية ...) في مسلسل التنمية المحلية المستدامة، فان الجماعة المحلية تتحمل تنفيذ مقتضيات الأجندة21، فلها تعود مسؤولية التنشيط و توجيه مسلسل التنمية المحلية المستدامة،و هي التي يجب أن تكون المخاطب الرئيسي للدولة – لاعتبار قربها من المواطنين- في وضع و ترسيخ سياسات التنمية المستدامة، مثلما يفترض بها ،و بكل الوسائل، تشجيع المسلسل التشاركي و تحقيق مخططات العمل المحلي من أجل التنمية المستدامة كما وردت في الأجندة 21 المحلية.
و إذا كانت الجماعة المحلية تطلع بهذا الدور الجوهري، فإن تحقيق التشاركية و الديمقراطية في تدبير التنمية المحلية كشرط أولي لاستدامتها نفرض شرطين أساسيين : الانتخاب الشعبي للأجهزة التداولية التي تكون لها مهام و وظائف واسعة، و كذلك استغلال مختلف أشكال المشاركة الشعبية في مسلسل صناعة القرار.و إدخالها في سياق تعاون و توافق شامل، إلى جانب المتدخلين العموميين المحليين.
و لهذه القدرة التعبوية للجماعات المحلية موقع هام في تحديد قدرات الجماعة المحلية على تدبير التنمية المحلية المستدامة، بحيث تتوقف قدرة الجماعات المحلية (la capacité des collectivités ) ،إضافة إلى العوامل الفردية (المنتخبون و الموظفون... ) و العوامل المؤسساتية (التنظيمات و قواعد العمل)، على العوامل النسقية (facteurs systémiques ) أي الإطار الخاص التشريعي و التنظيمي و اشكال التفاعل مع هياكل الدولة و المجتمع المدني و القطاع الخاص، مما يجعل وجود مؤسسات تعاون و تحالف استراتيجي بين الجماعات المحلية و غيرها من المتدخلين على المستوى المحلين في إطار مفهوم الشراكة، محددا من محددات قدرة الجماعة المحلية على تشجيع و تدبير التنمية المحلية.
و من المهم هنا أن تكون هذه العوامل النسقية للجماعة المحلية، و المؤسسة لفكرة التعاون لدى الفاعلين في المجال المحلي، مستوعبة لضرورة توسيع مجال التعاون إلى ما وراء الوحدات الإدارية الشكلية، لتشمل على وجه خاص القطاع الخاص، و المنظمات غير الحكومية و المنظمات التطوعية... و التي يجب أن تكون مدمجة و قريبة، و كلها مصادر هامة للموارد المختلفة (المالية، البشرية، الاحترافية، المعرفة، الخبرة...) التي من شأنها المساهمة في المسلسل العام و التعاضدي للتنمية المحلية المستدامة.
إن مسؤولية الجماعة المحلية تبدو مفصلية في تحريك مسلسل التنمية المستدامة، ليس كمتدخل عمومي فقط، و لكن كمنشط و محفز لباقي الفاعلين ، و مؤلف بينها في إطار مشروع محلي موحد، و كذلك كباحث عن مختلف الموارد التي قد يوفرها له متدخلون على مستويات مختلفة من خلال استراتيجيات الشراكة و التعاون.
وفي هذا الإطار ، يوفر التعاون اللامركزي آلية هامة لدعم دينامية الحكامة المحلية .

ب: تقوية التعاون اللامركزي لدينامية الحكامة المحلية
تقوم فلسفة التنمية المحلية المستدامة على اعتبار الساكنة المحلية بجميع مكوناتها كفاعلين فيها و ليس فقط كمواضيع لها.
و لذلك فإن الحكامة المحلية مكون أساسي في مسلسل هذه التنمية، و ذلك لارتكازها على إدماج مختلف الفاعلين في مشروع تشاركي شمولي، للاستفادة من الموارد التي من شأن هؤلاء الفاعلين المحليين توفيرها.
و أصبح التعاون أهم مجالات استثمار هؤلاء الفاعلين غير الحكوميين، و مجالا لتقوية دينامية التعاون و التنسيق المحلي، خاصة و أن الانفتاح على المجال الخارجي للتراب يفرض حدا أدنى من تنظيم هذا التراب من أجل تثمين الموارد المحلية و تطوير القدرة التفاوضية مع الشركاء الخارجيين.
و لهذا تتركز أهم الانتقادات اليوم للتعاون الدولي المركزي في عدم الإشراك الفعال لمختلف هؤلاء الفاعلين غير الحكوميين، أو – حتى لدى بعض الدول المتقدمة- عدم تثمين الدور الذي يمكن أن يقوموا به في سياسات التعاون الدولي، و هذا ما يترجمه مثلا المجلس الأعلى للتعاون الدولي الفرنسي، في رأيه للوزير الأول في 18 أبريل 2000 بالقول أنه " و رغم التطورات الأخيرة، فإن الإدارة تميل دائما نحو اعتبار مشاركة المنظمات غير الحكومية فقط كوسيلة تقنية و مالية لدعم هذه البرامج، (...) كما أن المساطر الاستشارية المتصلة ببرامج التعاون هذه لا تدعم إشراك و إدماج المجتمع المدني"
و حتى في الأحوال التي تتجه فيه الدولة في تعاونها إلى إشراك المجتمع المدني، فإن ذلك عادة ما يقتصر على المنظمات أو الجمعيات الكبرى الوطنية، المدعومة من طرف الدولة في أغلب الأحوال، و التي حتى قد تكون في غير حاجة إلى الدولة لربط علاقات تعاون فوق وطنية.
في مقابل هذا، فإن الجماعات المحلية من خلال التعاون المركزي توفر قوة وساطة هامة جدا للمجتمع المدني المحلي للاستثمار في التعاون فوق الوطني، اعتبارا أن التعاون اللامركزي يتجاوز الإطار المؤسساتي الضيق. إذ و رغم خاصية العمومية، فإن العلاقة بين الجماعات الترابية يمكن أن تعتبر " كتعاون مجتمع مع مجتمع آخر" (coopération de société à société) لأنه يرتكز في نفس الوقت على أساس مؤسساتي و على تعبئة الفاعلين المحليين، يسهلها القرب المؤسساتي للجماعة المحلية من هؤلاء الفاعلين .
و لا يجب أن نتصور أن إشراك المجتمع المدني بمختلف مكوناته في مشاريع التعاون اللامركزي له فقط أهمية سياسية ، بمفهومها المحدود في ضرورة الإشراك الديمقراطي لهؤلاء في سياسات التدخل العمومي، و إنما مبرر نفعي هام جدا؛ فإذا كانت الجماعات المحلية قد انفتحت على المستوى العالمي لأجل تحمل مسؤولياتها في تدبير التنمية المحلية، فإن هذا الانفتاح لا يمكن أن ينجح إلا إذا اعتمد إستراتيجية إشراك جميع الفاعلين في الحياة المحلية في إطار شبكة منسوجة مع نظائرهم من الجماعات الشريكة، للاستفادة من الموارد التي يمكن أن يوفرها هؤلاء، خاصة مع تطور مواضيع التعاون اللامركزي و اتساعها، في مقابل محدودية إمكانات الجماعات المحلية الجماعات المحلية.
و لذلك فإن من الضروري تحريك مختلف هؤلاء الفاعلين، ما دامت الجماعة غير قادرة على أداء مهام التعاون اللامركزي بالاعتماد فقط على مستخدميها، إذ يجب أن تستعين بالمنظمات غير الحكومية، الجامعات، الجمعيات المختلفة... و عموما كل القوى الحية للجماعة.
و الحقيقة أن دور الجماعة المحلية في اتفاقات التعاون اللامركزي يأخذ بعدا أهم في قدرتها على لعب دور الوساطة و ربط العلاقات هذا، الذي تستطيع من خلاله توفير شروط تنشيط و تحريك طرق الشراكة، لصالح مختلف المكونات المحلية و على مستوى يتجاوز الحدود الوطنية.
إن مفهوم الجماعة المحلية في علاقات التعاون اللامركزي يستوعب كل القدرات الاقتصادية، الاجتماعية و الثقافية التي يمكن أن تركزها في خدمة تبادلها هذا مع الجماعات الأخرى،و الدور الأساسي للجماعة المحلية ليس هو بكل بساطة التعاون، و لكن الدفع لممارسة التعاون، faire faire de la coopération .
لقد أصبح المعيار الأساسي لنجاح التعاون اللامركزي هو مدى استيعابه لمختلف الفاعلين المحليين، و ربطهم في علاقات تعاون و تبادل، ففي تجربة الجماعات المحلية المغربية، و إذا كان يشار مثلا إلى التعاون بين مدينتي الدار البيضاء و بوردو كإحدى أنجح نماذج التعاون اللامركزي، فإن ذلك يعود إلى مستوى تعبئة الفاعلين المحليين بمختلفهم في إطار هذه الشراكة، إذ نجد مثلا خلق علاقات تواصل و تعاون بين كل من:
1 نظام المهندسين المعماريين لبوردو و المجلس الجهوي لنظام المهندسين المعماريين لمنطقة الوسط.
2 معهد علوم الإعلام و الاتصال لبوردو و كلية الآداب و العلوم الإنسانية ابن مسيك
3 نظام الخبراء المحاسبين لبوردو- أكنتين و نظيره بالدار البيضاء
4 نادي روتاري ببوردو نادي روتاري بالدار البيضاء أنفا.
5 غرفة التجارة و الصناعة ببوردو و نظيرتها بالدار البيضاء.
كذلك هو الشأن في نموذج آخر مهم، حيث المجتمع المدني في قلب التعاون، و يتعلق الأمر بالتعاون اللامركزي بين مدينة فكيك و سان دوني(Saint- Denis) الموقع اتفاقه في يوليوز 2000، فقد عبأت مدينة فكيك لهذا التعاون أكثر من أربعين (40) جمعية و منظمة غير حكومية، كصندوق المدارس، و جمعيات السكان المهتمة بالتنمية، جمعية أباء التلاميذ، جمعية المعاقين... في المقابل، رافق المجتمع المدني ل "سان دوني هذا التعاون أساسا من خلال جمعيات المهاجرين و كذلك جمعيات و منظمات الشباب
إن الدور الإيجابي للجماعة المحلية في الدفع بالتنمية المحلية على ترابها و على تراب الشريك كذلك ، من خلال التعاون اللامركزي تتحدد بشكل كبير عبر وضع شبكة تواصل بين فاعلي المجتمع المدني و خلق دينامية شراكة، و كذلك دعم فرص العالم الجمعوي المحلي لتوسيع حقل تدخله إلى المستوى فوق الوطني.
و بالنسبة لهذا المجتمع المدني المحلي، و بين التعاون الدولي المسير من طرف الإدارات المركزية، و التعاون غير الحكومي الذي تهيمن عليه المنظمات غير الحكومية الكبرى، فإن التعاون اللامركزي يؤسس مجالا مفتوحا أمامه للتعاون، و ينهي هيمنة المؤسسات الكبرى على هذا التعاون فوق الوطني.
و أهمية التعاون اللامركزي ارتباطا بالحكامة المحلية تستمد بشكل جوهري من مدى مساهمة الفاعلين المحليين –و خاصة المجتمع المدني- و مدى تعبئتهم حول مشروع الشراكة ، لتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستفادة و تعميمها على مختلف القطاعات.
و لذلك فإن مستقبل التعاون اللامركزي يرتكز على قدرة الجماعات المحلية هذه على خلق علاقات التعاون و تحفيز الشراكة بين مكونات المجتمع المدني المحلي لدى طرفي التعاون اللامركزي.
و لعملية إشراك الفاعلين المحليين في هذا التعاون فوق الوطني أهمية نظرية كذلك (مرتبطة بنظرية و مفهوم التعاون اللامركزي)، فقد رأينا أنه إضافة إلى المفهوم الذي حددناه للتعاون اللامركزي (و هو نفس المفهوم لدى المشرع الفرنسي و المغربي) و الذي يرتكز على الجماعات الترابية العمومية كأطراف حصرية للتعاون اللامركزي، فإن هناك مفهوما أوروبيا أقرب إلى الفلسفة الأنجلوسكسونية للتدخل العمومي التي تساوي بين الجماعات المحلية و الجمعيات و المنظمات الخاصة، يعتبر كل هذه الأخيرة أطرافا ممكنة في التعاون اللامركزي.
و هنا فإنه و إذا ما أدركت الجماعات المحلية أهمية دورها كمحفز على التعاون، و تمكنت من تعبئة مختلف الفاعلين المحليين باختلاف طبيعتهم، فإن هذا الاختلاف النظري بين التصورين يصبح أضيق و يسهل تجاوزه.
4: مساهمات التعاون اللامركزي في المجالات المختلفة للتنمية المحلية

إن ارتباط التعاون اللامركزي بالتنمية المحلية في مختلف مستوياتها، هو من النتائج المباشرة لتطور هذا الأخير، فقد رأينا أن العلاقات فوق الوطنية الأولى للجماعات المحلية قد أخذت شكل التوأمة، التي يصعب لمس مساهمتها الفعلية في التنمية المحلية، مع بعدها الرمزي القوي و اقتصارها على المجال الثقافي أو الرياضي، و هيمنة الجانب الإنساني و خاصة في إطار التوأمة – التعاون التي جمعت الجماعات المحلية لدول الشمال بنظريتها بالجنوب.
و لذلك فان مساهمة مثل هذه العلاقات فوق الوطنية للجماعات المحلية في التنمية المحلية مرتبط بتطور مشاريع التعاون و اتساعها لتشمل مختلف المجالات، و بتراجع مفاهيم الإعانة و الإحسان أمام تطور مفاهيم التعاون و الشراكة ...، و ذلك في إطار التعاون اللامركزي الذي أصبحت تعتبره مختلف المنظمات الدولية اليوم آلية لتنمية القدرات المحلية، من أجل تدبير فعال و ديمقراطي، و وسيلة لتحقيق المكاسب المتبادلة و تعميمها على مختلف مستويات التنمية المحلية، بما يعطيها صفة الاستدامة.
و باستقرائنا لواقع التعاون اللامركزي من خلال النماذج المختلفة، و إمكانات التنمية الهامة التي يوفرها، يمكن القول بأنه يساهم إيجابا في المستويات المختلفة للتنمية المحلية المستدامة و هو ما يمكن إبرازه من خلال المطلبين التاليين.

المستوى السياسي و الإداري: دعم الديمقراطية المحلية و فعالية التدبير المحلي:أ

يرتبط دور التعاون اللامركزي على هذا المستوى بشكل أكبر بالجماعات المحلية لدول الجنوب، حيث قصر سن تجارب اللامركزية و تواضع قدرات التدبير المحلين، لكنها تمس كذلك نفس المستوى لدى الجماعات المحلية لدول الشمال، و لو بشكل مختلف.
و ارتبط الدور السياسي للتعاون اللامركزي بداية بمرافقة التحولات و تغيرات التنظيم الإداري و السياسي لدول الجنوب خلال السنوات الأخيرة، و ذلك من أجل تثبيت مصداقية التنظيم اللامركزي الحديث بها، و مساعدة جماعاتها على الانتظام و اعتبار نفسها كجماعات محلية عمومية.
و تدعيم مصداقية الجماعات المحلية يستلزم إضافة إلى ترسيخ اللامركزية و الديمقراطية المحلية، تطوير التدبير المحلي اللامركزي لصالح الساكنة المحلية.
و في هذا الاتجاه، فإن الجماعات المحلية لدول الشمال تساهم في دعم التحول الإداري و السياسي بالدول الشريكة من خلال التقريب من المواطنين،و من خلال شفافية أكثر و فعالية المؤسسات المحلية.
و تقدم تجربة دعم الجماعات المحلية لدول أوروبا الغربية للتحول السياسي و الإداري لنظيرتها في أوروبا الوسطى و الشرقية من خلال التعاون اللامركزي خلال فترة التسعينات، بعد سقوط جدار برلين، نماذج هامة في هذا الدور السياسي و الإداري للتعاون اللامركزي.
و نورد هنا أساسا نموذج التعاون اللامركزي للجماعات المحلية الفرنسية مع نظيرتها في بولونيا، حيث و بدعم من الجمعية الفرنسية- البولونية، قدمت الجماعات المحلية الفرنسية دعما هاما لنظيرتها البولونية في مجال الإدارة الترابية، التجهيز و النقل و الإسكان... مركزة بشكل أكبر على التكوين و نقل الخبرة.
و تولي الجماعات المحلية الفرنسية أهمية بالغة لهذا الدور الإداري و السياسي للتعاون اللامركزي، خاصة و أن تجربتها اللامركزية غنية و جماعاتها المحلية ذات خبرة في التدبير المحلي، من شأن نقلها للجماعات الشريكة تطوير اللامركزية ببلداتها.
و باطلاعنا على خطاطة التقسيم الموضوعي للتعاون اللامركزي للجماعات المحلية الفرنسية، يتبين هيمنة أعمال الدعم المؤسساتي (appui institutionnel) على % 26 من مواضيع التعاون هذه، و هي النسبة الأعلى على الإطلاق بين نسب المواضيع الأخرى. (التكوين و التعليم % 15، التنمية المحلية الحضرية % 12، التنمية المحلية القروية %9، التنمية الاقتصادية %8، الثقافة و الفرانكفونية %8، التنمية الاجتماعية و الصحة %3، البحث و الجامعات%62 قطاعات متداخلة و قطاعات أخرى %17).
و يمكن للجماعات المحلية الشريكة الاستفادة من خاصية أهمية مواضيع الدعم المؤسساتي في تعاونها مع الجماعات المحلية الفرنسية، من أجل تطوير أداءها و كسب مصداقية أكبر أمام الساكنة المحلية. و هو الأمر بالنسبة لدول الجنوب، حديثة العهد باللامركزية، حيث لا تكفي القوانين من أجل ترسيخها، و إنما هي بحاجة إلى تطوير و تحسين جودة أعمالها و قدرات و كفاءات مسؤوليها.
و دعم التعاون اللامركزي لنظام اللامركزية يتم من خلال مدخلين، أحدهما مادي و الآخر موضوعي.
فبالنسبة للدعم المادي، فإن التعاون اللامركزي مصدر متميز للموارد التقنية، فهو مجال لاكتساب المعرفة و الخبرة من خلال التواصل مع تجارب و فاعلين بمختلف الدول، بل إن شبكة التعاون هذه تشكل مصدرا لتطوير جودة التدبير الجماعي بأقل التكاليف، إذ تتمكن الجماعة المحلية من خلال التعاون اللامركزي، من الاندماج في شبكة تبادل للمعلومات، و الاستفادة من تجارب الجماعات الشريكة في المجالات المختلفة، بهدف اكتساب الخبرة و المناهج المرتبطة بتدبير الشأن العام المحلي, وخاصة من خلال آلية الشبكات les réseaux . و في هذا الإطار فإن تصريح رئيس إحدى الجماعات المحلية لدول الجنوب تلخص هذه الأهمية بالقول: " أن تعاوننا مع الشركاء الأوروبيين حول ترميم و إعادة تأهيل المراكز التاريخية سمح للمدينة بربح 10 سنوات من الأخطاء غير المرتكبة" .
أما الدعم الموضوعي فيبرز من خلال اتجاه الجماعات المحلية لدول الشمال نحو فرض الديمقراطية التشاركية كشرط للدعم المادي و الإعانة، و كذلك نحو تفضيل التواصل مع وحدات منتخبة مشابهة لها منه من التعامل مع الوحدات اللاممركزة ، و هذا يمثل ضغطا موضوعيا في اتجاه تقوية اللامركزية و الهياكل التمثيلية بدول الجنوب.
هذا إضافة إلى أن التعاون اللامركزي يعني في حد ذاته توسيعا لمجالات و إمكانات تدخل الوحدات اللامركزية بحرية – و هذا سواء بالنسبة لدول الشمال أو لدول الجنوب-، فالجماعات المحلية بالجنوب ستوسع و تنوع مجالات تدخلها و نشاطها ليتلاءم و تنوع و تطور مواضيع التعاون اللامركزي المقترحة، مثلما امتد اختصاص تحقيق الجماعات المحلية بالشمال للمصلحة العامة إلى خارج الحدود الوطنية، و قد رأينا كيف كان التعاون اللامركزي وراء تطوير مفهوم المصلحة العامة المحلية من طرف القضاء الإداري و المالي الفرنسي، و إعطاءها بعدا فوق وطني، بحيث تكون متحققة " حتى و إن لم يكن للمشروع انعكاس مباشر" على الجماعة.
و لا يساهم التعاون اللامركزي فقط في الدعم المادي و الموضوعي للامركزية و إنجاحها و كذلك تطوير أبعادها، و إنما من شأنه تجاوز ذلك إلى تشجيع الديمقراطية المحلية، خاصة و أن مشاريع التعاون اللامركزي أصبحت تستهدف بشكل مباشر الساكنة المحلية و الوحدات المحلية الممثلة لها بمختلف طبيعتها، و أصبحت تسخر أعدادا أكبر من المجتمع المدني، من جمعيات التضامن و الجامعات، المنظمات المهنية، المكاتب السياحية، وكالات التنمية، و الفاعلون الثقافيون ... و غيرهم من الفاعلين في الحياة المحلية و تدمجهم في البرامج المختلفة للتنمية المحلية.
و ساهمت سياسات الجماعات المحلية لدول الشمال في تعميق هذا الدور السياسي للتعاون اللامركزي، بحيث أنها تحاول تجاوز العلاقات الحصرية مع المسؤولين في الجماعة المحلية الشريكة من أجل تجنب خدمة مصالحهم السياسية، و هو ما يفرض عليهم البحث عن سبل التعامل مع النسيج الاجتماعي و السياسي المحلي من خلال هذا التعاون اللامركزي.
و بعملية توسيع مشاركة مختلف مكونات هذا النسيج المحلي فإنها تدعم ممارسة المجتمع المحلي لحقه في تحمل المسؤولية، و المشاركة في تحقيق برامج التنمية فوق ترابه. و التعاون اللامركزي بذلك يشكل عاملا من عوامل تحجيم الثغرة و الهوة المتواجدة بين " القمة المؤسساتية" و القاعدة الشعبية المحلية.
و لا يقتصر هذا الدور الداعم لتطور أشكال الديمقراطية المحلية فقط على دول الجنوب، فعلاوة على دور التعاون اللامركزي في تعبئة المجتمع المدني و مختلف الناشطين المحليين لدى الجماعات المحلية لدول الشمال، و دوره البيداغوجي في تلقين قيم المواطنة و تقوية دور الجماعة في تحريك الفاعلين اتجاه التزام معين، فإن التعاون اللامركزي يشكل مجالا لاستلهام هذه الجماعات لمختلف أشكال إشراك الساكنة المحلية من خلال تجارب الجماعات المحلية الشريكة.
و هذا هو الحال بالنسبة للجماعة المحلية الفرنسية «saint- coulitz » بمناسبة تعاونها مع جماعة" بنغونا" بالسنغال، حيث تبنت تجربة "مجلس المسنين" (conseil des anciens ) ، مثلما هو موجود بإفريقيا السوداء، لتتبعها بعد ذلك مدن أخرى بفرنسا مثل « Albert ville »أو « roche-sur-you »أو « Mulhouse »
و هي التجربة التي يتذكرها أحد المسؤولين المحليين الفرنسيين بالقول " لقد تبين لنا أن السنغاليين في "بنغونا" ذهبوا أبعد منا في ممارستهم للمشاركة ... لقد ذهبنا لنساعد الأفارقة على التغيير، و هم الذين غيرونا"
ب: المستوى الاقتصادي و الاجتماعي : تنشيط الاقتصاد المحلي و الإدماج الاجتماعي.
يرتبط الدور الاقتصادي للتعاون اللامركزي بالتطور الكبير لمواضيعه خلال السنوات الأخيرة، و كذلك بتطور النخب المحلية المشاركة و تزايد وعيها بالفرص الهامة التي يوفرها لدعم الاقتصاد المحلي.
و يبرز هذا البعد الاقتصادي للتعاون اللامركزي بشكل أكبر في التعاون شمال- شمال، و خاصة بين الجماعات المحلية الأوروبية. بينما تتراجع أهميته في التعاون اللامركزي مع دول الجنوب، خاصة الأكثر فقرا، و التي لا تتوفر على الإمكانات التي قد تجعل منها شريكا اقتصاديا فعليا.
و يذهب البعض في هذه الحالة الأخيرة، إلى اعتبار أنه، و حتى في حالة التعاون الذي يكون موضوعه إمداد مثل هذه الجماعات بمعدات معينة، فإن ذلك يعتبر دعما للمقاولات المحلية المصنعة لهذه المعدات.و مثل ذلك ما ذهب إليه أحد المسؤولين في المديرية العامة للجماعات المحلية بالمغرب في اعتباره أن " ما نسميه نحن نقلا للتكنولوجيا إنما هو بيع للتكنولوجيا، فهي توفر منافذ تسويق دائمة، فعندما يتم تركيب شبكة تطهير فرنسية في المغرب، فإن المغرب يبقى مرتبطا دائما باستيراد التكنولوجيا الفرنسية، و يصبح بذلك سوقا مفتوحا لهذه البضائع و الخبرة الفرنسية.
و بعيدا عن مثل هذه القراءات للواقع فإن من شأن التعاون اللامركزي توفير آليات جد هامة لدعم الاقتصاد المحلي.
و يتجلى هذا البعد الاقتصادي للتعاون اللامركزي في قدرته على خلق فرص اقتصادية هامة للفاعلين الاقتصاديين المحليين، و لو دون تحديد أنشطة اقتصادية معينة.
فالجماعة المحلية توفر من خلال التعاون اللامركزي سندا لتوسيع أسواق المقاولات الصغرى و المتوسطة المحلية، و لتشجيع الشراكات الاقتصادية لهذه المقاولات مع نظيراتها بالدول الأخرى. خاصة إذا كانت مثل هذه المقاولات أطراف مساهمة في أعمال التعاون هذه، و توفر لها الجماعة المحلية الفرص المناسبة لذلك.
و نعرض هنا لمثالين هامين؛ الأول يخص التعاون اللامركزي بين المدينة Rennes الفرنسية و المدينة الكزخستانية Almaty ، حيث ساهمت مجموعة من المقاولات المحلية المتعاقدة مع المدينة الفرنسية في دعم هذا التعاون، مما وفر لها إمكانية الإطلاع على فرص السوق الكزخستاني، و هو ما سمح مثلا لمقاولات محلية في القطاع الغدائي و في الاستشارة أن تستثمر في Almaty و تدخل بذلك السوق الكزخستاني.
اما المثل الثاني، فهو التعاون بين مدينة Gatineau الكندية، و "برشيد" المغربية، حيث حظيت المبادلات الاقتصادية باهتمام خاص، إذ بدت واضحة أهمية الجهود المبدولة من الطرفين لأجل خلق شروط ملائمة للقاء بين المقاولات و تشجيع أنشطتها.
فقد ثم تنظيم مهام متبادلة للفاعلين الاقتصاديين للمدينتين، مثلما تم البحث في إمكانية توزيع منتجات السراميك المحلي لبرشيد في منطقة أوطاوا، خاصة و أنه لا يوجد أي منتج له، لا في مدينة Gatineau و لا حتى في كل جهة العاصمة الكندية، كما تم خلق بنك للمعلومات حول المقاولات بالمدينتين لتيسير الاتصال بينهما، و كذلك تم توجيه استمارة من طرف Gatineau إلى مختلف الفاعلين الاقتصاديين ببرشيد للإطلاع على خصائص السوق المحلية و ميولات المقاولات المحلية... إلى جانب مجموعة من الإجراءات الأخرى التي من شأنها الدفع نحو شراكة بين مقاولات المدينتين و توسيع آفاقها الاقتصادية.
من الواضح من خلال هذين المثالين مدى مساهمة التعاون اللامركزي في تدويل أنشطة المقاولات المحلية، بل و كذلك الحرفيين و الصناع و الصناع التقليديين، الوكالات السياحية... و تنشيط الشراكات الاقتصادية لهؤلاء مع نظرائهم في دول أخرى.
و من إيجابيات التعاون اللامركزي في ما يخص الشراكة الاقتصادية، أن هذه الأخيرة تكون أكثر توازنا، خاصة في علاقات التعاون شمال – جنوب، اعتبارا أن حجم المقاولات الصغرى و المتوسطة المحلية بدول الشمال تضعها في وضعية تبادل أكثر توازنا مع المقاولات الناشئة في دول الجنوب، عكس ما قد ينتج عن التعامل مع المقاولات الكبرى التي لا تحتاج حتى لوساطة مؤسسة عمومية كالجماعات المحلية من أجل اكتساح الأسواق عبر العالم.
لكن تثمين هذا الدور الاقتصادي يفرض في واقع الأمر تجاوز ممارسات التعاون اللامركزي التي تستهدف فقط خلق أو تشجيع الأنشطة الاقتصادية المحلية في شكل مقاولات في أصغر أحجامها، كوحدات صناعة الجلد أو التعاونيات النسائية... (و هو ما نجده في عدد كبير من اتفاقات التعاون اللامركزي شمال- جنوب)، هذه المشاريع الصغيرة ذات التأثير المحدود في البيئة المحلية، و غير القادرة عادة على الاندماج في الاقتصاد المحلي، خاصة مع عدم وجود أنشطة أخرى تكميلية. مثلما يفرض ذلك اندماج أكبر قدر ممكن من هؤلاء الفاعلين المحليين في اتفاقات التعاون اللامركزي لجماعاتهم المحلية، و الاستثمار فيها، و تنظيم القدرات الاقتصادية المحلية و تعبئتها.
و استيعاب هذا الدور الاقتصادي المهم للتعاون اللامركزي هو الذي من شأنه كذلك إعطاء الصفة التبادلية La Réciprocité للتعاون اللامركزي، خاصة بين الجماعات المحلية في دول الشمال و نظيرتها في الجنوب.
و لذلك فإن على الجماعة المحلية تسخير الطاقات الاقتصادية المحلية و إشراكها في برامج التعاون اللامركزي، و هو دور يناسب بشكل أكبر " الجهة" - و هو الحال مثلا في التجربة الفرنسية- لقدرتها على لعب دور المنشط لنسيج اقتصادي موسع يستوعب فاعلين اقتصاديين مختلفين، و هذا هو الكفيل بإعطاء صفة الاستدامة للقدرة الاقتصادية المحلية.
في المقابل، فإنه ليس من الصعب اكتشاف البعد الاجتماعي في التعاون اللامركزي، و هو بعد حاضر منذ مرحلة الممارسات الأولى للتوأمة، متجليا في استهدافها لتكريس السلم و التقريب بين الشعوب بغض النظر عن انتماءاتهم المختلفة، و هو ما جسدته التوأمة الفرنسية- الألمانية مثلا بعيد الحرب العالمية الثانية، أو التوأمات بين الجماعات المحلية لغرب أوروبا و نظيرتها في الشرق خلال الحرب الباردة.
مثلما تجلى هذا البعد بعد ذلك في التوأمة- التعاون مع الجماعات المحلية لدول الجنوب، و التي عادة ما كانت تتضمن إنجاز مشاريع اجتماعية لصالح ساكنة الجماعات المحلية بالجنوب و خاصة المناطق القروية، و ذلك في مجال التعليم أو الصحة أو إيصال الماء الصالح للشرب ...
لكن الرهان الاجتماعي للتعاون اللامركزي اليوم هو أهم بكثير، فإضافة إلى دور هذا التعاون في تنمية روح التضامن لدى الساكنة المحلية خاصة عندما يتعلق الأمر بإنجاز مشاريع معينة لصالح جماعات محلية أخرى، فإن له دورا هاما في معالجة الإقصاء الاجتماعي و إدماج مختلف الشرائح الاجتماعية في الشؤون العامة المحلية.
و هذا ما يتحقق من خلال إقحام الشباب في برامج التبادل بين الجماعات المحلية، أو ما تتجه إليه بعض الجماعات المحلية الفرنسية مثلا من إدماج ساكنة الأحياء الهامشية في برامج التعاون اللامركزي، أو استيعاب البطالة أو المتقاعدين في هذه البرامج، كما هو الحال مثلا بجماعة Romans الفرنسية التي وصلت فيها نسبة البطالة إلى % 20 نتيجة ما عرفته مؤخرا من أزمة في صناعة الأحذية، و هو ما حذا بها إلى استثمار 600.000 فرنك فرنسي في أعمال التعاون اللامركزي، و تمكنت من وضع برنامج، يقوم من خلاله عمال جلد سابقون بتكوين إسكافيين في تونس و كذلك أرمينيا.
و يوفر التعاون اللامركزي كذلك وسيلة لإدماج المهاجرين في المجتمع المحلي، و هي من الأهداف الثابتة لدى بعض الجماعات المحلية الفرنسية التي تشرك هؤلاء المهاجرين في تعاونها اللامركزي مع الجماعات المحلية لبلدهم الأم.

و نظرا لأهمية مثل هذا البعد الاجتماعي، فقد لجأت مجموعة من المدن الأوروبية بشراكة مع مدن أخرى مغاربية بإنشاء شبكة
Insermed في إطار برنامج Med urbs
و ذلك بهدف محاربة الإقصاء السوسيوقتصادي، و الذي يعاني منه المهاجرون على وجه الخصوص..
و بالنظر إلى مختلف هذه الإضافات الاجتماعية، فإن التعاون اللامركزي يساهم في تقوية الإحساس لهؤلاء الذين يعيشون وضعية اجتماعية صعبة، عبر إشراكهم في إنجاز مشاريع تنمية هامة في إطار التعاون مع الجماعات المحلية الأخرى.
بهذا الشكل الذي عرضنا له ، يبدو التعاون اللامركزي مجالا لتناسق مختلف مستويات التنمية المحلية المستدامة، و ذلك نظرا لطبيعة هذا التعاون الأقرب إلى الساكنة المحلية بمختلف مكوناتها، فهو و مقارنة مع التعاون الحكومي، يستجيب بشكل أفضل بكثير للحاجات الملموسة و الانشغالات اليومية لهذه الساكنة ، و هو ما يجعله آلية مساهمة في تحقيق أهداف التنمية المحلية المستدامة على مستوياتها المختلفة مستفيدا من اعتباره أكثر إنسانية و كذلك أكثر فاعلية.