‏إظهار الرسائل ذات التسميات ماستر الحكامة المحلية،alaoui abdelouahed. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ماستر الحكامة المحلية،alaoui abdelouahed. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 17 يناير 2014

الحكامة والتنمية المستدامة

الحكامة/الحكم الصالح (الراشد) والتنمية المستدامة
عبد الحسين شعبان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1][1] في الوقت الراهن، وفي العالم العربي، حلت كلمة رشيد بدل راشد، فكلمة رشيد تعني حسن التقدير والتدبير، وقد جاء في الآية الكريمة (أل************************** مقدمةما يزال الحديث عن التنمية الانسانية المستدامة والحكم الصالح (الراشد) في مرحلتهما الاولى، وبخاصة في عالمنا العربي والاسلامي، فحتى عهد قريب وربما قبيل صدور تقارير الامم المتحدة الانمائية، كان المقصود بالتنمية هو النمو الاقتصادي، وإستبدل التركيز من النمو الاقتصادي، الى التركيز على التنمية البشرية والى التنمية المستدامة فيما بعد، اي الانتقال من الراسمال البشري الى الرأسمال الاجتماعي وصولاً الى التنمية الانسانية ببعدها الشامل، اي الترابط بكل مستويات النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي، بالاستناد الى نهج متكامل يعتمد على مبدأ المشاركة والتخطيط الطويل الامد في حقول التعليم والتربية والثقافة والاسكان والصحة والبيئة وغيرها، ويتوخى قدراً من العدالة والمساءلة والشرعية والتمثيل.من هنا نشأت العلاقة بين مفهوم الحكم الصالح (الراشد) والتنمية الانسانية المستدامة، لأن الحكم الراشد هو الضامن لتحويل النمو الاقتصادي الى تنمية انسانية مستدامة. ومع ذلك فقد ظل المفهوم بحاجة الى تأصيل وتبيئة خصوصاً في المنطقة العربية، التي تعاني من ضعف المشاركة ومركزية الدولة الشديدة الصرامة وعدم اعطاء دور كاف لهيئات الحكم المحلي، ناهيكم عن إبعاد مؤسسات المجتمع المدني من المساهمة وعدم توّفر بيئة صالحة سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية لذلك، سواء على صعيد التشريعات او بسبب ضيق مساحة الحريات الخاصة والعامة وبشكل خاص الحريات الاساسية.هذه الورقة تناقش في إشكالية المفاهيم، لتنتقل الى المؤشرات والأبعاد بالنسبة للتنمية أو للحكم الصالح، لتضع محورية العلاقة بين التنمية والحرية وان لم تكن عملية شرطية، لكنها في نهاية المطاف لا بدّ ان تفضي اليها كفضاء لا غنى عنه، سواء من خلال الحكم الصالح او العلاقة المتبادلة بين الديمقراطية والتنمية، وبعدها تتوقف الورقة عند سؤال التنمية والحكم الصالح... الى أين؟، لتخصص فقرة خاصة باعلان الحق في التنمية الصادرة عن الامم المتحدة عام 1986.اشكالية المفاهيمما الذي نعنيه بالتنمية؟ هناك المفهوم الضيق المتداول أحياناً ببعده التقليدي، والذي يُقصد منه التنمية الاقتصادية. يقابله المفهوم الواسع، الذي يستند الى فكرة التنمية الانسانية ببعدها الشامل، وكذا الحال بالنسبة لفكرة الحكم الراشد او "الحكم الصالح" او " الجيد" او " الرشيد" والذي شاع استخدامه في السنوات الاخيرة (1)، فالمفهوم الضيق، والذي تُفضل ادبيات البنك الدولي استخدامه، يعتمد على فكرة الادارة الرشيدة بدلالة النمو الاقتصادي، عندما يتم التطرق الى التنمية، في حين ان المفهوم الواسع يرتفع الى مستوى السياسة، فيعالج مسألة الحكم والعلاقة بين عامة الناس والادارة الحاكمة، بما يدخل في ذلك مسألة الشرعية والمشاركة والتمثيل والمساءلة، اضافة الى الادارة العامة الرشيدة باعتبارها مكوّنات للحاكمية الراشدة (الصالحة) كما يذهب الى ذلك تقرير التنمية الانسانية العربية (2).وتبرز الحرية كفكرة جوهرية ومركزية في عملية التنمية الانسانية، خصوصاً اذا اعتبرنا التنمية الانسانية هي: " عملية توسيع خيارات الناس"، وبهذا المعنى، للناس ولمجرد كونهم بشراً، حق أصيل في العيش الكريم مادياً ومعنوياً، جسداً وروحاً ويترتب على ذلك:1- شمول مفهوم التنمية مبدأ المساواة وعدم التمييز بين البشر وفقاً لأي اعتبار اجتماعي او اقتصادي او ديني او قومي او لغوي او جنسي، او غير ذلك.2- إتساع مفهوم التنمية ليشمل الجوانب المعنوية، مثل الحرية واكتساب المعرفة وحق التمتع بالجمال واحترام الكرامة الانسانية والمشترك الانساني، وبهذا المعنى فالتنمية لا تعني الوفرة المادية حسب، ولكنها تتطلب بناء القدرات البشرية المطلوبة لتحقيق الرفاه والتوظيف العقلاني للقدرات البشرية في مجالات النشاط الانساني والانتاج والسياسة والمجتمع المدني.هكذا اذاً التنمية لا تعني مجرد تنمية الموارد البشرية، ولا حتى تنمية بشرية حسب، اي تلبية الحاجات الاساسية، لكنها تنمية انسانية شاملة في البشر والمؤسسات المجتمعية لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة الانسانية.والمفهوم الواسع للتنمية الانسانية يضيف الى الحريات المدنية والسياسية (بمعنى التحرر من القهر ومن جميع اشكال الحطّ من الكرامة الانسانية، مثل الجوع والمرض والفقر والخوف) الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليصل الى قاعدة عريضة تعتمد على مبادئ حقوق الانسان. اما الحكم الصالح فلا بد ان يعتمد على عدد من المحاور الاساسية منها: صيانة الحرية، اي ضمان توسيع خيارات الناس، وتوسيع المشاركة الشعبية والمساءلة الفعّالة والشفافية الكاملة في ظل فصل السلطات والتوازن بينها، وسيادة القانون والقضاء المستقل والنزيه والكفوء، الذي تنّفذ أحكامه من قبل السلطات التنفيذية.والامر يتطلب تضافر ثلاث قطاعات: قطاع الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص(رجال الاعمال).ولكي يتحقق مقداراً من التعاون الضروري بين القطاعات المختلفة وفي اطار تعاون دولي، فلا بدّ من احترام حقوق الانسان والحريات الاساسية، وتكريس البنية القانونية، والتحلي بمبادئ الادارة الرشيدة المؤسسية بعيداً عن التسلط الفردي والهيمنة، وهذا يتطلب تداولاً للسلطة ومكافحة للفساد وفقا لمساءلات قضائية، وفي اطار مجتمع مدني حر وعلاقات دولية تتسم بقدر من الاحترام لقواعد القانون الدولي وفي اطار المصالح المشتركة.التنمية والحكم الصالح: أبعاد ومؤشرات!!مرّ مفهوم التنمية بأربعة مراحل: المرحلة الاولى، جرى التركيز على النمو الاقتصادي، وفي المرحلة الثانية على التنمية البشرية وفي المرحلة الثالثة، على التنمية البشرية المستدامة، وفي المرحلة الرابعة، على التنمية الانسانية بمعناها الشامل، وإقترن هذا التطور بإدخال مفهوم الحكم الصالح في ادبيات الامم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولعل السبب في ذلك يعود الى ان بعض البلدان، التي حققت نمّواً اقتصادياً، لم تستطع أن تحقق تحسنّاً في مستوى معيشة غالبية السكان، وهكذا فان تحسن الدخل القومي لا يعني تلقائياً تحسين نوعية حياة السكان (3).وساهم " التراكم الريعي" في بعض البلدان تحقيق تنمية محدودة، بسبب من محدودية مساحة الحريات كما هي بلدان الخليج العربي، كما حققت انظمة شمولية تنمية محدودة ايضاً في بدايات توجهها، لكنها وصلت الى طريق مسدود، بل عانت من اختناقات حقيقية بسبب فسحة الحريات الشحيحة وأساليب الاستبداد والتفرد في الحكم، التي استفحلت كما هي التجربة المصرية والعراقية والسورية والجزائرية والليبية واليمنية الجنوبية وغيرها، وهكذا تهيأت تربة خصبة لعرقلة التنمية. ولعل الاطلال على تجربة البلدان الاشتراكية السابقة في دول اوروبا الشرقية وغيرها، يعطينا ذخيرة كبيرة لمتابعة علاقة التنمية بالحرية ومؤشراتها المستقبلية(4).وركزت تقارير برنامج الامم المتحدة الانمائي منذ العام 1990، على مفهوم نوعية الحياة وعلى محورية الانسان في التنمية، وأصبح النمو الاقتصادي ليس غاية بحد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق التنمية، ومن واجب الحكم الصالح ان يتأكد من تحقيق المؤشرات النوعية، لتحسين حياة السكان وهذه المؤشرات تتعدى الجوانب المادية ليندرج فيها العلم والصحة والثقافة والكرامة الانسانية والمشاركة.لا يمكن اذاً الجزم بعلاقة شرطية مطلقة بين التنمية والحرية، لكن انعدام أو شحّة الاخيرة سيؤدي الى تقليص حجم التنمية ويؤثر مستقبلا على استمرارها، إنْ لم يكن تراجعها وهو ما بينّته التجربة التاريخية.ان علاقة التنمية بالحكم الصالح يمكن قراءتها من خلال ثلاثة زوايا هي: 1- وطنية، تشمل الحضر والريف وجميع الطبقات الاجتماعية والفئات بما فيها المرأة والرجل.2- عالمية، أي التوزيع العادل للثروة بين الدول الغنية والدول الفقيرة وعلاقات دولية تتسم بقدر من الاحترام والمشترك الانساني والقواعد القانونية.3- زمنية، اي مراعاة مصالح الاجيال الحالية والاجيال اللاحقة (5). ووفقاً لهذه الزوايا يمكن قراءة الابعاد الأساسية للحكم الصالح من خلال:1- البعد السياسي، ويعني طبيعة النظام السياسي وشرعية التمثيل والمشاركة والمساءلة والشفافية وحكم القانون.2- البعد الاقتصادي والاجتماعي بما له علاقة بالسياسات العامة والتأثير على حياة السكان ونوعية الحياة والوفرة المادية وارتباط ذلك بدور المجتمع المدني واستقلاليته.3- البعد التقني والاداري، أي كفاءة الجهاز وفاعليته، فلا يمكن تصور ادارة عامة فاعلة من دون الاستقلال عن النفوذ السياسي، ولا يمكن تصوّر مجتمع مدني دون استقلاليته عن الدولة ولا تستقيم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، بغياب المشاركة والمحاسبة والشفافية، هكذا اذاً يحتاج الامر الى درجة من التكامل.يمكن القول ان مؤشرات التنمية الانسانية المستدامة تتلخص في توسيع قدرات الناس وخياراتهم والتعاون بتحقيق التنمية وعدالة التوزيع والاستدامة، اي التواصل في العيش الكريم والأمان الشخصي دون خوف او تهديد، ويذهب تقرير التنمية الانسانية العربية لعام 2000 الى اضافة: الحرية والحق في اكتساب المعرفة والشفافية وتمكين المرأة باعتبارها مؤشرات نوعية لا تتحقق الا بوجود نظام ادارة حاشد يضع السياسات ويسعى لتطبيقها(6). وقد كشف تقرير التنمية الانسانية العربية لعام 2004 عن النقص الفادح في الحريات وبخاصة السياسية والمدنية ونقص المعرفة والثقافة والنظرة غير المتوازنة الى حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل ناهيكم عن الموقف من حقوق الاقليات.لعل نقيض الحكم الصالح او الراشد هو الحكم السيء poor governance وذلك من خلال المعايير التالية: 1- عدم تطبيق مبدأ سيادة القانون أو حكم القانون و Rule of law .2- الاندغام بين المال العام والمال الخاص وعدم الفصل الواضح والصريح بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.3- الحكم الذي لا توجد فيه قاعدة شفافة للمعلومات وعلى العكس من ذلك قاعدة ضيقة لصنع القرار.4- استشراء الفساد والرشوة وانتشار آليتهما وثقافتهما وقيمهما.5- ضعف شرعية الحكام وتفشي ظاهرة القمع وهدر حقوق الانسان.6- الحكم الذي لا يشجع على الاستثمار خصوصاً في الجوانب الانتاجية ويدفع الى الربح الريعي والمضاربات (7).في دراسة للبنك الدولي بخصوص الحكم الراشد في الشرق الاوسط وشمال افريقيا، حددت معيارين: الاول حكم القانون والمساواة وحق المشاركة والفرص المتساوية للاستفادة من الخدمات، اما الثاني: التمثيل والمشاركة والتنافسية والشفافية والمساءلة (8) . وذهبت دراسة ثانية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لتأكيد على اربعة معايير هي دولة القانون وادارة القطاع العام والسيطرة على الفساد وخفض النفقات العسكرية في حين ان البرنامج الانمائي للامم المتحدة UNDP ركز على تسعة معايير وهي :1- المشاركة 2- حكم القانون 3- الشفافية 4- حُسن الاستجابة 5- التوافق 6- المساواة 7- الفعالية 8- المحاسبة 9- الرؤيا الستراتيجية(9) .معايير الحكم الراشد (الصالح)وفقاً للبرنامج الانمائي للامم المتحدة(10)المحاسبة التوافقالشفافية الحكم الراشد/الصالح (السليم) المشاركة حسن الاستجابة حكم القانون المساواة الفعالية ولا يمكن الحديث عن هذه المعايير دون إستقرار سياسي وسلم مجتمعي واهلي، ووجود مؤسسات وتداول سلمي للسلطة وإقرار بالتعددية وانتخابات عامة دورية وادارة اقتصادية ومشاركة شعبية.وقد تبلور هذا المعيار في العقدين ونيف الماضيين في ضوء تجارب تنموية مختلفة من حيث المضمون والنتائج، ناجحة وفاشلة. ولعل هذا جزء من نقاش حول دور الدولة في عملية التخطيط والمعوّقات التي تواجهها، او انسحاب الدولة بعد فشل عدد من التجارب وترك عملية التنمية لآليات السوق والمنافسة بالتركيز على الانتاجية والربحية وتقليص حجم الدولة عبر الخصخصة، لكن هذا التوجه لم يؤدي الى نتائج ايجابية في الكثير من الدول النامية خصوصاً في اميركا اللاتينية مثل البرازيل والارجنتين ومصر في الانفتاح الاقتصادي وازداد التفاوت الاجتماعي عمقاً والهوّة اتساعاً.اما المفهوم الثالث فقد ركزّ على دور مشاركة الدولة بالدرجة الاساسية، اضافة الى القطاع الخاص والمجتمع المدني، بحيث تكون الدولة اللاعب الاساسي في وضع السياسات العامة في مجالات التعليم والعمل والتدريب المهني والاشغال والبيئة وتوزيع الموارد بعدالة وعلى تقرير دور المجتمع المدني ودفع القطاع الخاص نحو المشاركة في المشاريع الانتاجية او الاهتمام بالجندر " المرأة"، خصوصاً في البلدان التي تحتاج الى دور اكبر للدولة مع مراعاة دور القطاع الخاص وحمايته وتشجيعه وكذلك الى مساهمة المجتمع المدني.وإذا كان الحكم الرشيد أو الصالح يعني حسن التصرف في إدارة الحكم لجهة الشفافية والمساءلة والمساواة ، لحدودها الدنيا وللشرائح الدنيا أحياناً ، فإنها يمكن أن تساعد في تحقيق التنمية وتشتبك مع الديمقراطية ، التي تعني أشكال وأساليب ممارسة السلطة السياسية وآليات اتخاذ القرار إضافة إلى مجموعة الضمانات القانونية ضد العسف السياسي من جانب السلطة على حقوق الفرد والمجتمع كما ورد في أعلاه (11).حسب اعتقادي، هناك علاقة وثيقة بين التنمية والحكم الصالح والديمقراطية، لكن مثل هذه العلاقة ليست حصرية أو إجبارية ، فقد يكون هناك حكم غير ديمقراطي لكن إدارته وسلوكه أقرب إلى الحكم الصالح ، وبالطبع فإن كل نظام ديمقراطي لابد أن يشتبك مع موضوعة الحكم الصالح خصوصاً في مسألة المساواة والمساءلة والشفافية. كما أن تحسين اداء الحكم وربطه بالديمقراطية ، يتطلب نوعاً من الإصلاح السياسي سواء من حيث الأسس أو التوجهات العملية بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، فقد تتيح كما أشرنا بعض الأنظمة درجات معينة ومحدودة من المساءلة والشفافية لأسفل الهرم الحكومي ، لكنها تظل بعيدة عن المتطلبات والشروط الدولية للديمقراطية. أما أنظمة الحزب الواحد حيث تأكل الدولة المجتمع وتبتلع مؤسساته المدنية، (الأهلية وغير الحكومية) أو تحّولها إلى تابع لها فإن مسألة المساءلة والشفافية تضعف إلى حدود كبيرة، حيث ينتشر الفساد والتسلطية والإستبداد بتراتبية من قمة الهرم حتى قاعدته، على حد تعبير المفكر والمصلح عبد الرحمن الكواكبي.النظام الديمقراطي يتطلب فصلاً للسلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتناوبية عبر انتخابات دورية ومجتمع مدني ناشط ، واحترام لحقوق الإنسان، ومساءلة للحاكم، وتلكم هي إحدى مقاربات الديمقراطية على المستوى العالمي من الناحية الحقوقية الفكرية والسياسية، وهي التي أخذت بها الأمم المتحدة والعديد من الهيئات الدولية (12). وهناك أسئلة تتوالد باستمرار حول الديمقراطية والتنمية: منها هل ان الديمقراطية هي الرافعة التي تؤسس بالضرورة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ؟ أو ان هذه تنشأ بمعزل عن طبيعة نظام الحكم؟ أو قد تنشأ متأثرة بالنظام السياسي (نسبيا) اي بسلوكية الحكم ، سواء كان حكماً صالحاً (Good Governance)أو كان حكما طالحا (Poor Governance)، وسواء كان حكماً ديمقراطياً أم شمولياً؟ والسؤال يطرح على نحو اخر: هل الديمقراطية والتنمية مكوّنات لمعادلة واحدة ، بحيث ان وجود الاولى يقود بالضرورة الى الثانية؟ وهل ان الديقراطية وحقوق الانسان ، هما "الهدف المركزي" أم أن التنمية وتحسين الحياة الاجتماعية والرفاه الاقتصادي هي الهدف ؟ أي هل الديمقراطية هي الوسيلة والتنمية هي الهدف؟ أم أنهما تختلطان مع بعضهما وتتبادلان الادوار أحيانا، فالوسيلة تكون هدفا لمرحلة تأسيس والهدف يصبح وسيلة لرفاه السكان؟ (13) .ومن مشكلات التنمية والحكم الصالح في مجتمعاتنا العربية أننا نعاني من:1- استمرار نمط الدولة الريعية او شبه الريعية، التي تعتمد على موارد أولية او مصادر تأتي من الخارج.. مثل النفط، السياحة، تحويلات من الخارج، رسوم الترانزيت والقروض.2- استمرار ظاهرة الدولة الأمنية، التي تعتمد على سياسة القمع، واحتواء المجتمع المدني ومصادرة الحريات ...3- ضعف البنية المؤسسية السياسية والادارية وغياب المحاسبة والشفافية.4- ضعف مفهوم المواطنة وعدم وجود عقد اجتماعي لعلاقة الحكام بالمحكومين من خلال دستور واضح ومحدد وعصري ويستجيب لحاجات التطور، وشحّة الحريات وبخاصة حرية التعبير وحق الاعتقاد وحق تأسيس الاحزاب والجمعيات والنقابات وضعف المشاركة السياسية، وتفشي الامراض الاجتماعية مثل :الطائفية والعشائرية والجهوية وغيرها.5- ضعف مشاركة المرأة في الحياة العامة والحياة السياسية بشكل خاص وانعدام الفرص المتساوية والمتكافئة امام القانون وفي الحياة العملية وفي العمل، واستمرار تفشي الامية في صفوف النساء على نحو شديد ومضاعف بالنسبة للرجال، وكذلك استمرار الموقف السلبي من قضية الاقليات الدينية والقومية واللغوية وحقوقها ناهيكم عن وجود وتفاقم ظاهرة عزل المهمشين وذوي الاحتياجات الخاصة.6- النمو الكبير للجهاز البيروقراطي وترهل الادارة الحكومية وتقادمها وارتفاع المديونية وانخفاض معدل الانتاجية وازدياد العجز في الميزانية، واعتبر تقرير التنمية الانسانية العربية ان نقص الحرية مسؤول عن فشل بناء الدولة الحديثة وفشل التنمية الانسانية في المنطقة العربية (14). سؤال التنمية والحكم الصالح الى أين؟يطرح هذا السؤال نفسه بعد مناقشة اشكالية المفاهيم: هل يمكن الحديث عن حق الانسان في التنمية بإعتباره حقاً جماعياً للشعوب دون ربطه بالفرد الكائن البشري؟ ومصدر هذا السؤال يمتد الى الصراع الايديولوجي في فترة الحرب الباردة والنظرة المنحازة لكلتا المنظومتين الاشتراكية والرأسمالية. ومثل هذا الجدل بل والصراع كان قائماً على المستوى الدولي سواء في الامم المتحدة أو خارجها، وازداد عمقاً وشمولاً في ظل " العولمة " وارتفاع وتيرة المصالح في ظل لاعب اساس متحكم في اللعبة الدولية، وممارسة حقه في التجارة باعتباره الاقوى وتأثيره على المؤسسات المالية الكبرى، التي حوّلها الى حصون منيعة له، وبرز ذلك مع تراكم مشاكل الهجرة وانتشار المخدرات وإستشراء الارهاب وتفاقم مشكلة اللاجئين والتوظيف السياسي من وراء ذلك، حين كان الغرب يغض النظر عن انتهاكات حقوق الانسان من بعض اصدقائه، بحجة مكافحة التطرف والتعصب والارهاب والاصولية، وتحجب المساعدات عن دول حاولت ان تتلمس طريقها في التنمية بما ينسجم مع خصائصها وتطورها ورفضها الخضوع أو التبعية، ويثا أمامها على نحو إغراضي قضية انتهاكات حقوق الانسان، بطريقة توظيفية بعيدة عن عدالتها.في العام 1977 دخل " الحق في التنمية" في جدول اعمال لجنة حقوق الانسان بالامم المتحدة، وبذلك بدأت مرحلة جديدة من مراحل تطور حقوق الانسان.شكّلت اسئلة التنمية جزءاً من المقترب البنيوي بخصوص الجيل الثالث لحقوق الانسان، رغم ان الثمانينات شهدت اوضاعاً انتقالية، استكملت حتى نهايتها بوضع حواجز أمام سلع العالم الثالث، مما زاد في تعميق أزمة التنمية واستفحال المديونية وهيمنة سياسة المؤسسات المالية الدولية، التي قادت الى استنزاف للموارد الطبيعية والانسانية، للدول وتقليص فرص النمو والعمالة وارتفاع وتيرة العنف وعدم الاستقرار والمزيد من انتهاكات حقوق الانسان.وفي بداية التسعينات تعزز مفهوم الحق في التنمية بمفهوم " التنمية البشرية" كما ورد في تقارير الامم المتحدة للتنمية، سواء من البرنامج الانمائي للامم المتحدة UNDP أو من جانب البنك الدولي، حيث تمت الدعوة الى مكافحة الفقر وايلاء اهتمام اكبر بالجانب الاجتماعي واعتماد مبدأ المشاركة كجزء من الحق في التنمية ومبدأ الحكم الصالح الراشد (الجيد) Good Governance.وفي بيان القمة بمناسبة الالفية الثالثة، لزعماء العالم الذي حضره نحو 150 زعيماً أيلول(سبتمبر) 2000، جرى الوعد بإحداث تغييرات رسمية بوضع اهداف لخفض نسبة من يعيشون بأقل من دولار واحد يومياً، الى النصف وكذلك عدد الاشخاص الذين يفتقرون الى مياه شرب صحية واستكمال البنين والبنات مراحل تعليمهم الابتدائي ووضع حد لانتشار الايدز والملاريا والامراض الفتاكة الاخرى(15).وفي البيان المذكور شددت الجمعية العامة للامم المتحدة على القيم والمبادئ انطلاقاً من الامم المتحدة وميثاقها كاساسين لا يمكن الاستغناء عنهما لبناء عالم اكثر سلاماً وازدهاراً وعدالة، وجرى التأكيد على السعي لتصبح العولمة قوة ايجابية لصالح جميع الشعوب في العالم وتقاسم فوائدها.وتم التأكيد على قيم الحرية والحكم الديمقراطي والتشاركي والمساواة والتضامن والتسامح والمسؤولية المشتركة في ادارة التنمية الاقتصادية والاجتماعية العالمية بالاضافة الى مسؤولية حماية السلم والامن الدوليين.وبخصوص التنمية والقضاء على الفقر جرى التأكيد على ما يلي: • تحرير الرجال والنساء والاطفال من الاوضاع المُذِلّة وغير الانسانية.• خلق مناخ مناسب دولياً ومحلياً، يتجاوب مع التنمية والقضاء على الفقر.• اعتماد الشفافية المالية والنقدية التجارية من خلال أنظمة حكم تتكيف لذلك في كل بلد.• ابداء القلق ازاء العقبات التي تواجهها الدول النامية.• التعامل الفاعل لحل مشكلة المديونية للدول النامية ذات الدخل المنخفض والمتوسط.• تلبية احتياجات دول الجزر الصغيرة النامية.• الاقرار بحاجة الدول النامية التي لا تمتلك منفذاً بحرياً ومساعدتها على تخطي عقبات النقل والمرور وتحسين انظمتها وشبكاتها المواصلاتية.وفي فقرة خاصة تم تناول موضوع حماية البيئة والتأكيد على المحافظة على الغابات وتطويرها ومكافحة التصحر والجفاف وايقاف الاستغلال المفرط للموارد المائية. وفي اطار توصيف عملية التنمية وربطها بالديمقراطية جرى الحديث عن الحكم الصالح والتأكيد على بذلك الجهود لترويج الديمقراطية وتعزيز سيادة القانون الى جانب احترام حقوق الانسان والحريات الاساسية، المعترف بها دولياً بما فيها الحق في التنمية، مؤكداً على احترام حقوق الاقليات ومكافحة جميع انواع العنف ضد المرأة وضمان حقوق المهاجرين والعمال وعوائلهم ووضع حد للاعمال المتصاعدة التي تتخذ شكلاً عنصرياً او عداءاً وكرهاً للاجانب والتشجيع على الانسجام والتسامح في المجتمع.وكان مؤتمر فيينا العالمي لحقوق الانسان الذي انعقد في العام 1993 قد دعا لإقرار تفاهم عالمي حول حق التنمية حين نص على " تحسن الطرح النظري وزيادة الادوات الدولية في ميدان حقوق الانسان، لا يمكن ان يحجبا عن كل متتبع ان الهّوة ازدادت في الوقت اتساعاً بين الدول وداخلها ولاسيما في حقل ما يصنف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكن فصلها عن الحقوق المدنية والسياسية (16).انطلاقا من ذلك فان حق التنمية هو عملية شاملة ترمي الى ضمان جميع حقوق الانسان والحريات الاساسية، وهي حق من حقوق الانسان غير قابلة للتصرف، وجزء لا يتجزأ من الحريات الاساسية، ويرسخ اعلان الحق في التنمية هذا المفهوم، وذلك بسعيه لدمج التنمية بحقوق الانسان على نحو متكامل، ويتطلب مسؤولية جميع الاطراف في المجتمع الدولي، ويسعى الى ربط مفاهيم التنمية الانسانية المستدامة بحق الانسان والمشاركة النشطة الحرة والفعالة لكل الافراد في التنمية.وتتأكد اكثر فكرة الربط بين الحقوق الفردية في التنمية وبين الحقوق الجماعية للمجتمع او الدولة، فحق التنمية هو حق للفرد مثلما هو حق للجماعة، واذا كان الامر يتطلب جماعة متحررة غير خاضعة لهيمنة اجنبية، وحقاً على المستوى الدولي في مساعدتها على التنمية، فانه يتطلب أيضاً ديمقراطية داخلية واحترام حقوق الفرد حتى لا تصبح الجماعة قمعية.ولا بد هنا من التأكيد إن تثبيت الحق في التنمية، وهو الخطوة الثانية المهمة بعد اعلان تصفية الاستعمار(الكولونيالية) لعام 1960، الصادر عن الجمعية العامة، انما يستهدف المساعدة في تعديل الميزان المختل في العلاقة بين الشمال والجنوب، بين الاغنياء والفقراء، بين الاقوياء والضعفاء، وكذلك الجمع بين مجالين ظلاّ يعملان بصورة منفصلة وهما حقوق الانسان والتنمية.يقول جون باجي من المفوضية السامية لحقوق الانسان " ما بين عام 1952 و1999 حدثت الكثير من التطورات في قاعات المؤتمرات في الامم المتحدة وفي الكثير من دول العالم، مما استوجب اعادة النظر في الفهم الخاطئ الناتج عن إعمال مجموعتين من الحقوق، ونتيجة لذلك... وافقت 171 دولة بالامم المتحدة في مؤتمر فيينا (1993) على ضرورة ادماج هاتين المجموعتين من الحقوق في مجال التطبيق، اذا ما اريد لأجندة الامم المتحدة في مجال حقوق الانسان ان تكون ذات معنى" (17).جدير بالذكر الاشارة الى ان الجمعية العامة واجهت منذ العام 1950 مشكلة تقرير ما اذا كانت ستمضي في طريق صياغة عهد دولي او اتفاقية دولية لحقوق الانسان ملزمة قانوناً، وذلك بعد الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في 10 كانون الاول (ديسمبر)عام 1948.لكن الامر الذي تم التوصل اليه هو صياغة عهدين او اتفاقيتين رغم ان الجمعية العامة ذاتها اكدت :" ان التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، متداخلان ومترابطان، وان الانسان المحروم من الحقوق الاقتصادية لا يمكن ان يكون نموذجاً للانسان الحر".لكن فشل لجنة حقوق الانسان من التوصل الى صيغة كهذه، اضطر الجمعية العامة للموافقة عام 1952 على فصل حقوق الانسان الى مجموعتين... وانطلاقاً من ذلك " القرار" اضطررنا ان نعيش هذا التقسيم الخاطئ وغير المقنع لمجموعتين من الحقوق رغم ترابطها وتداخلها.عند تثبيت الحق في التنمية لا بدّ من إلفات النظر الى مسؤوليات الحكومات الغربية، خصوصاً والحكومات بشكل عام ازاء الفرد والمجتمع، كجزء من البعد الاخلاقي لعملية دمج التنمية بحقوق الانسان، سواءاً بمعناها الدولي ومسؤولية بلدان الشمال الغنية او بمعناها الاقليمي والوطني بمسؤولية حكومات بلدان الجنوب عن ربط التنمية باحترام حقوق الانسان كجزء منها وباحترام القواعد الديمقراطية في تطور المجتمع والفرد.يطرح البروفسور كارل فاسيك موضوع " الحق في التنمية" كجزء من تطور عملية حقوق الانسان، وهو ما يطلق عليه الحقوق الجديدة من منطق " حقوق التضامن"، كالحق في السلام والحق في بيئة نظيفة، والحق في الاستفادة من التراث المشترك للبشرية. وكان فاسيك قد طرح المسألة عام 1977 بمناسبة التحضير للذكرى الـ 30 للاعلان العالمي لحقوق الانسان ومرور 200 عام على الثورة الفرنسية. ويعدّ فاسيك مبدع فكرة الجيل الثالث لحقوق الانسان(18).ويذهب أبعد من ذلك عندما يعتبر ان الحقوق المدنية والسياسية وهي التي تمثل (الجيل الاول)، كانت قد صيغت في القرن الثامن عشر وشكلت خلفية ثقافية للثورة الفرنسية.اما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهي تمثل (الجيل الثاني) فقد صيغت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين تحت تأثير الفكر الاشتراكي والماركسي ، خصوصاً موضوع المساواة والحديث عن حقوق العمل والعمال والضمان الاجتماعي وغيرها.اما (الجيل الثالث) او " حقوق التضامن" فهي محاولة لادخال البعد الانساني بعد حقوق الانسان، خصوصاً وان تلك الحقول كانت متروكة للدولة مثل البيئة والسلام والتنمية والتواصل والتراث المشترك للانسانية.ولكي يتم تأمين هذه الحقوق وترابطها مع الحقوق الاخرى فلا بدّ من جهود جميع الفاعلين في العملية الاجتماعية سواء كانت دول او مجموعات او كيانات او افراد (19).وبهذا المعنى فان التنمية كستراتيجية، تنطلق من عملية شمولية متكاملة تتضمن جميع حقوق الانسان وهي غير قابلة للتجزئة وفقاً لمؤتمر فيينا لعام 1993، كما لا يمكن ان يُصار الى رفضها بحجة وجود أنظمة غير ديمقراطية، بما يؤدي الى المساس بصدقية الحقوق ذاتها، وكذلك لا يمكن رفضها أو تأجيلها بحجة الدعاوى التي تتعكز على الخصوصية القومية او الدينية او الثقافية، لتعطل المنظومة الدولية والمعيارية لحق التنمية، بحجة التدخل الخارجي، حتى وان كان "انسانياً"، اذ لم يعد مقبولاً التملص من الالتزامات والمعايير الدولية، الهادفة الى احترام الفرد ودوره في المشاركة في عملية التنمية وتطوير عملية السلام الاجتماعي والتطور الديمقراطي في المجتمع، فذلك من واجبات الدول ازاء نجاح وتقدم عملية التنمية.واكدت السيدة ماري روبنسون، مفوضة الامم المتحدة السامية لحقوق الانسان السابقة، هذا المعنى عندما اشارت في ندوة القاهرة (1999) الى ان مؤتمر فيينا لحقوق الانسان منح تأكيداً واضحاً للحق في التنمية، كحق عالمي، لا يمكن انكاره، وكجزء لا يتجزأ من الحقوق الاساسية للانسان.وحددت روبنسون الاطراف التي ينبغي تعاونها لانجاح عملية ادماج التنمية بحقوق الانسان بما يلي : الحكومات والجماعة الدولية والمجتمع المدني ودائرة رجال الاعمال (20).اعلان الحق في التنميةيذهب البعض الى القول ان الامم المتحدة عندما أصدرت " إعلان الحق في التنمية" في كانون الاول (ديسمبر)1986 لم تأت بجديد، فبعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كحق الانسان في المأكل والملبس والمسكن والرعاية الصحية والتعليم والعمل، وردت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام 1948 وبالتحديد في المواد 23 و25 و26، كما ان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على مستوى الدول والافراد كانت قد وردت في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادر عام 1966 وبالتحديد في المواد 6 و7 و11و 12 و13، التي نصت على الحق في العمل وفي مستوى معيشة كاف له ولأسرته والحق في الصحة والتعليم (الالزامي- المجاني) وغيرها (21).وإذا كان الامر صحيحاً، فالصحيح أيضاً ان الجديد في الاعلان " الحق في التنمية" هو " ربط هذه الحقوق صراحة بعملية التنمية بابعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واعتبار عملية التنمية (حقاً) من حقوق الانسان، وليست مجرد (طلب) يطالب به الافراد قد تستجيب له الحكومات أو لا تستجيب، كما ان الموافقة على (الحق في التنمية) من جانب الدول النامية تعني ان هذه الدول اصبحت مسؤولة امام شعوبها عن القيام بالتنمية وما يتطلبه ذلك من أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، وكذلك فان الموافقة على هذا الحق من جانب الدول المتقدمة تعني ان هذه الدول اصبحت مسؤولة عن مساعدة الدول النامية، التي تفتقر الى الموارد المالية والفنية الكافية لتحقيق التنمية الاقتصادية..."(22).لم يحظ اعلان الحق في التنمية على إجماع أعضاء الامم المتحدة، فقد اعترضت عليه الولايات المتحدة الامريكية وتحفظت عليه بعض دول أوروبا "الموحدة" على بعض مواده وفقراته مثل " حق الدول النامية في المساعدات المالية"، لكن الاهتمام الكبير بالاعلان ناجم عن كونه تعّرض لاوضاع ثلاثة ارباع سكان الكرة الارضية، وهم سكان دول البلدان النامية او " العالم الثالث".ويعود الموقف من موضوع التنمية الى "الخندق الايديولوجي"، التي ظلّت تتمترس فيه بعض الانظمة والتيارات السياسية ورؤيتها ازاء حقوق الانسان، وذلك باختلاف نظمها الاقتصادية، فالدول الاشتراكية السابقة والصين وبعض بلدان التحرر الوطني وغيرها، كانوا يتبعون نظام الحزب الواحد سياسياً، ونظام التخطيط الشامل اقتصادياً، وتدخل الدولة عنصراً اساسياً في النشاط الاقتصادي، وتتخذ موقفاً سلبياً من الحقوق المدنية والسياسية، ولكنها من ناحية اخرى تؤيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، او توفر حدّها الادنى على اقل تقدير.مقابل ذلك فان الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية التي تعمقت فيها تاريخياً الحقوق والحريات، ظلت تدعو لإحترام الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الفردية، وتتخذ اجراءات ضد البلدان التي تنتهكها على نحو سافر، ولكنها لا تولي اهتماماً كافياً، بل يصل الامر الى اهمال متعمد أحياناً ازاء الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوق الجماعية للشعوب بما فيها حق تقرير المصير، مما يفقدها الكثير من الصدقية، ناهيكم عن تطبيقات انتقائية وازدواجية في المعايير بسبب التوظيف السياسي لتلك الحقوق. هكذا يمكن القول أن إتباع نظام السوق يؤدي الى قدر معين من البطالة، مما يعني ضمناً تجاوزاً على حق الفرد في العمل، وكذلك الحال ما له علاقة بمستوى المعيشة (23).وقد عرّف اعلان الحق في التنمية عملية التنمية بانها عملية متكاملة ذات ابعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية تهدف الى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الافراد، والتي يمكن عن طريقها تحقيق حقوق الانسان والحريات الاساسية.وقد وضع البرنامج الانمائي للامم المتحدة UNDP تفسيرات لمفهوم التنمية المستديمة والمتواصلة بأنها تعني القضاء على الفقر وتدعيم كرامة الانسان وإعمال حقوقه وتوفير فرص متساوية أمام الجميع عن طريق الحكم الصالح والذي يمكن عن طريقه ضمان جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية.صدر اعلان الحق في التنمية عام 1986 بأغلبية 146 صوتاً وعارضته الولايات المتحدة، التي سبق لها ان عارضت انشاء فريق العمل الخاص بالتنمية، رغم مشاركتها بعد تأسيسه مشيرة الى ان تعبير " حقوق الانسان للشعوب" يعتبر غير دقيق ويثير الخلط، في حين تغيّب 8 دول عن التصويت بينها اسرائيل وبريطانيا واليابان. وركزت التحفظات أو المآخذ حول العلاقة بين حقوق الانسان والنظام الاقتصادي العالمي الجديد، او مبدأ عدم قابلية حقوق الانسان للتجزئة او الاعتراف بالمساعدة للدول الفقيرة كالتزام قانوني دولي(24).وبامكاننا اعتبار " الحق في التنمية" يمثل الجيل الثالث من منظومة حقوق الانسان، الى صيانة السلم العالمي او حق السلم كما يقال والحق في بيئة نظيفة وسليمة والحق في الاستفادة المشتركة من التراث البشري ومنجزات العلم والتكنولوجيا، هذا اذا ما اعتبرنا الحقوق المدنية والسياسية تمثل الجيل الاول والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تمثل الجيل الثاني، فان حق التنمية والسلم يشكلان محور الجيل الثالث لمنظومة حقوق الانسان الدولية، ويمكن اعتبار الحق في الديمقراطية أحد أركان الجيل الرابع لحقوق الانسان.ونجد هنا ضرورة التأكيد على تفاعل الحقوق وتكاملها دولياً ووطنياً، واذا كان الغرب كما اشرنا قد ركز على الحقوق المدنية والسياسية، فانه لم يعط الحقوق الاقتصادية الاجتماعية والثقافية الاهتمام المطلوب الاّ مؤخراً. اما حق التنمية فقد شهد فصلاً تعسفياً احيانا من جانب بعض البلدان الغربية كالولايات المتحدة وبريطانيا وبدرجة اقل فرنسا وهولندا عن الحقوق الاخرى وبخاصة ما يتعلق " بالعالم الثالث".ان الحق في التنمية يؤكد ترابط حقوق الانسان كافة وعدم القدرة على فصلها او تجزئتها كما ان حقوق الانسان الفردية لا يمكن فصلها عن حقوق الشعوب والامم.ولهذا فان صدور اعلان الحق في التنمية كان خطوة مهمة لتحقيق التكامل في الحقوق وكان الطابع العام للاعلان متوازياً.وتشير مقدمة إعلان الحق في التنمية الى ان " التنمية عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسن المستمر لرفاهية السكان بأسرهم والافراد جميعهم على اساس مشاركتهم النشطة والحرة والهادفة في التنمية وفي التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها (25). ومن هذا المنطلق ينظر اليها كمسار اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي شامل يهدف الى تحقيق النهوض المطرد برفاهية الناس بالاعتماد على مشاركتهم الحرة والتقاسم العادل للخيرات والثروات، اي الاقرار بمحورية الانسان في عملية التنمية وبهذا المعنى فان العلاقة بين التنمية وحقوق الانسان هي علاقة احتوائية خصوصاً وان التنمية هي حق متفرع من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومؤلف ومكوّن منظومة حقوق الانسان (26).وجاء فيه ايضا" ... يحق لكل فرد .... ان يتمتع بنظام اجتماعي ودولي يمكن فيه اعمال الحقوق والحريات المبينة في هذا الاعلان اعمالاً تاماً.. واذ تشير الى حق الشعوب في تقرير المصير الذي بموجبه يكون الحق في تقرير وضعها السياسي بحرية وفي السعي الى تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بحرية.. في ممارسة السيادة التامة الكاملة على جميع ثرواتها ومواردها الطبيعية..."يتألف اعلان الحق في التنمية بعد الديباجة الطويلة من 10 مواد ركّزت على ما يلي: 1- الحق في التنمية كحق للانسان وكحق للشعوب، والتوفيق بين احترام حق الشعوب في السيادة على ثرواتها وبين الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية.2- الانسان هو الموضوع الرئيسي للتنمية، والمسؤولية فردية وجماعية ومن حق الدول ومن واجباتها وضع سياسات تنموية وطنية ملائمة (لاحظ حق وواجب).3- الحق في التنمية يقضي احترام مبادئ القانون الدولي وعلاقات الصداقة والتعاون وضرورة ازالة العقبات التي تعترض التنمية.4- ضرورة تعزيز تنمية البلدان النامية.5- التنمية مرتبطة بالسلام، ولذلك لا بدّ من صيانة السلم والامن الدوليين.6- ضرورة تحقيق تكافؤ الفرص واتخاذ تدابير فعالة لضمان قيام المرأة بدور نشيط في عملية التنمية، اي التركيز على البعد الداخلي في الحق في التنمية.7- تأكيد مبدأ عدم قابلية الحقوق للتجزئة.8- صياغة وتبني وإعمال تدابير سياسية وتشريعية وغيرها على المستوى الوطني والدولي،لتطبيق الحق في التنمية.وبعد نقاشات دولية وحقوقية تبنت لجنة حقوق الانسان في 4 آذار (مارس) 1993 قراراً يقضي بانشاء فريق عمل يعني بالحق في التنمية وتحديد المعوقات وتقديم التوصيات.ومنذ ذلك التاريخ بدأت بعض الاقتراحات تتفاعل للاعداد لاتفاقية دولية حول الحق في التنمية، اي دراسة امكانية تطوير اعلان الحق في التنمية الى اتفاقية دولية شارعة اي منشأة لقواعد قانونية جديدة ذات صفة الزامية.لا بد من الاشارة الى اهمية الترابط بين الديمقراطية والتنمية وحقوق الانسان، فما زالت الثغرة كبيرة بين خطاب الدول الصناعية المتقدمة وبين الدول النامية الفقيرة، سواء في موضوع الهيكلة او حقوق الانسان او مبدأ المساواة او غيرها على المستوى الدولي او على المستوى الوطني المحلي.وكاطلالة سريعة لاعلان الحق في التنمية، فانه يتضمن طائفة واسعة من الحقوق ضمن المنتظم الدولي والوطني وبشكل خاص فيما له علاقة بالشرعة الدولية لحقوق الانسان وبأركانها الاساسية، كالاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.ويمكن من خلال هذه الاطلالة قراءة المحددات التالية التي تضمنها الاعلان وما يمكن استنطاقه من مدلولات النص كمضمون رئيس لحق التنمية سواء في القانون الدولي، كحق للانسان (الفرد، الكائن البشري) أو حقوق الشعوب.وهذا الحق يتضمن: • حق المشاركة في الشؤون العامة (دولياً ووطنياً).• الحق في حرية تأسيس الجمعيات. • التعددية.• حرية التعبير وحرية الراي. • حرية الاعلام وحق تلقي المعلومات.• مشاركة المرأة.• الحق في تنمية وتعزيز الديمقراطية المحلية.• حق التنمية كحق للتمتع بحقوق الانسان الاخرى.• التزام الدولة بمراعاة حقوق الانسان في سياسات التنمية.• الحق في التنمية والمساواة في السيادة في العلاقات الدولية.• حق الشعوب في اختيار نظامها السياسي.• مبدأ السيادة الدائمة على الثروات الطبيعية.• حق التنمية وواجب التعاون الدولي والاستفادة من التكنولوجيا والعلم.• حق التنمية وربط المساعدة باحترام حقوق الانسان (اي ربط المساعدة باحترام حقوق الانسان في العلاقات الدولية).• التزام المنظمات الدولية بمعايير حقوق الانسان في انشطة التعاون الدولي من اجل التنمية (27).هناك عقبات وعراقيل وصعوبات تحول دون إعمال الحق في التنمية سواء في المجتمع الدولي او في المجتمع الوطني، اذ ان الحق في التنمية بما يرتبط به من حقوق والتزامات على الدول والمنظمات الدولية وسواء على المستوى الدولي او الوطني المحلي، يلاقي الكثير من العقبات التي تتطلب اعادة النظر في الكثير من السلطات والمواقع والامتيازات والعلاقات والبنى القائمة والعادات المترسخة.ان بعض مصادر هذه العراقيل هي : النظام الدولي بكامله ببعده القانوني والمؤسسي والاقتصادي والسياسي، اي تأويل وتفسير القانون بطريقة ازدواجية وانتقائية في المعايير، واستخدام المؤسسات الدولية والتحكم بالعلاقات الاقتصادية الدولية وترتيب المصالح والنفوذ والقوة والاستقطابات، اي علاقات الهيمنة التي يعاني منها ملايين البشر وعدد كبير من الشعوب التي ترزح تحت نير التبعية والهيمنة او الاحتلال المباشر والفقر والتهميش.ليس هذا حسب بل ان العوامل الخارجية الاخرى كثيرة التي تحول دون بلوغ التنمية منها، احتلالات الاراضي والحروب والاعمال العسكرية والنزاعات المسلحة الدولية والداخلية والارهاب الدولي، وكذلك تعرض بعض الشعوب والبلدان الى الحصارات الدولية التي يمكن ان تشكل عائقاً جدياً وحقيقياُ امام التنمية وبخاصة التنمية الانسانية المستديمة والتي تعدّ انتهاكاً سافراً وصارحاً لحقوق الانسان (28). ولعل تجربة العراق ونظام العقوبات الذي فرض عليه 1990-2003 وفيما بعد احتلاله خير دليل على انهيار المجتمع بكامله وليس تعطل التنمية حسب، وذلك لان نظام العقوبات، الذي يقع على الدولة بإفتراض مخالفة حكامها لقواعد القانون الدولي، لا ينحصر ضرره على مؤسساتها حسب، بل ينعكس على المواطن العادي، الذي لم يكن مسؤولا عن تصرفات حكومته، حتى وإن كانت استبدادية او غير شرعية في تجاوزها على القانون الدولي، فما بالك وان الاحتلال قد فجّر جميع النزعات الطائفية والمذهبية والاثنية والتجزيئية وعزز الاتجاهات التقسيمية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.ويمكن القول ان جميع اشكال العقوبات والاحتلالات تؤدي الى إبطال عملية التنمية وحرمان الانسان من فرص العيش الطبيعي، وبالتالي تشكل هدراً سافراً وصارخاً لا يخص التنمية فحسب بل لكل منظومة حقوق الانسان ومقومات استمراره وديمومته ككائن بشري(29).اما اهم المعّوقات للتنمية Obstacles of Development على المستوى الداخلي، فهي الفقر والفساد الاداري المحلي والدولي، وغياب الحريات الديمقراطية وتهميش دور المرأة وانخفاض مستوى التعليم والثقافة بما في ذلك استمرار تفشي ظاهرة الامية وبتجاهل حقوق الاقليات وعدم الاعتراف بها، وغيرها اضافة الى ما ذكرناه.ورغم التقدم الكبير الحاصل الذي احرزه العالم والمجتمع الدولي في وضع إطار مفاهيمي للتنمية كحق من حقوق الانسان وشمولية مفهوم التنمية، الا انه للاسف الشديد، لم يواكب هذا التطور في المفهوم تطور مماثل في السياسات الوطنية او الدولية، فإستمرت معظم الدول النامية ومنها الدول العربية في إتباع سياسات تنموية تعطي اولوية لاعتبارات النمو الاقتصادي- ان استطاعت- وتخضع لاملاءات الضغوط السائدة في كل الاحوال، كما استمرت السياسات الدولية في تكريس هيكل علاقات يفضي الى المركزية ويعزز اللامساواة (30).خاتمةيمكن القول ان التنمية في البلدان العربية مرّت بثلاث مراحل أساسية كجزء من البلدان الحديثة الاستقلال سواءً كانت انظمة ثورية أو محافظة، جمهورية أو ملكية فإن هناك بعض الخصائص المشتركة التي جمعتها، وإن كانت هناك منطلقات مختلفة ومتباعدة بينها خصوصاً الطريق الذي سلكته لتحقيق التنمية، والعقبات التي واجهتها.الاولى- مرحلة ما بعد الاستقلال أو نشوء الدول الحديثة العهد، وما رافق ذلك من نقاشات وجدالات حول الاهداف والسبل والاليات والفئات المستهدفة والطريق الذي يمكن اختياره الى التنمية، هل هو طريق التوجه " الاشتراكي" ام طريق التطور اللارأسمالي والنظام الاقتصادي الموّجه والتركيز على دور القطاع العام والتخطيط المركزي أم حرية السوق واعلاء دور القطاع الخاص!؟ وما رافق ذلك من تطور ونمو اقتصادي ولكن مرحلة ما بعد الاستقلالات العربية ونشوء الدول الحديثة شهدت انقطاعاً لخط التطور التدريجي عبر ثورات وانقلابات وتقليص الحريات والحياة البرلمانية والتعددية، على حساب دور الطبقة الوسطى والمثقفين وصعود العسكر والفئات الريفية، القليلة التعليم والمعارف. وقد وصلت هذه المرحلة الى طريق مسدود، رافقه انتشار ظاهرة الفساد والرشوة والهوّيات المصغّرة بانتعاش النزعات الطائفية والمذهبية والعشائرية والجهوية وغيرها.الثانية- مرحلة الطفرة النفطية للبلدان الشديدة اليُسر، والتي استمرت منذ اواخر العام 1973 (بعد ما سمي بحرب اكتوبر) واستخدام النفط سلاحاً في المعركة وحتى مطلع الثمانينات ومن ابرز سمات تلك المرحلة ارتفاع اسعار النفط، وجود فوائض بمليارات الدولارات سنوياً، التي اتجهت الى البنوك الامريكية والاوروبية، واحدثت الفوائض تنمية محلية سريعة وبخاصة في الدول النفطية خلال فترة قصيرة سواء للبنى التحتية وفي مستوى التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والتجارية والرفاه بشكل عام.الثالثة-مرحلة الانكماش الاقتصادي وبخاصة بعد اندلاع الحرب العراقية- الايرانية 1980 وطاولت تلك المرحلة عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وما تبع ذلك من حروب واحتلالات وبخاصة بعد غزو القوات العراقية للكويت عام 1990 وحرب قوات التحالف ضد العراق في العام 1991 ومن ثم فرض حصار دولي عليه، وشنّ الحرب عليه عام 2003 وسقوط بغداد ووقوعها تحت الاحتلال في 9 نيسان(ابريل) من العام نفسه.ومن اهم سمات هذه المرحلة تراجع معدلات النمو واستمرار ظاهرة الامية والبطالة وهجرة العقول والادمغة وازدياد الاعتماد على العمالة الاجنبية في دول الخليج العربي مقابل ارتفاع هجرة حادة للكفاءات في دول المغرب العربي.وادت هذه الاوضاع، حسب د. مسعود ظاهر في بحثه القيّم حول الامن الثقافي، الى تفاقم مشكلات الامن الثقافي والوطني والقومي بصورة حادة وبخاصة في دول الخليج، ويرجع السبب في كشف نقدي لمسيرة التنمية العربية الى انها اعتمدت على مشاريع استهلاكية وعلى التبادل التجاري، والى كونها تعمل بعيداً عن التكامل العربي في ظل توجه عالمي لاقامة وحدات اقتصادية كبيرة والى اعتمادها الى بيع المواد الاولية وعلى استيراد العمالة الاجنبية فضلاً عن أن تلك التحولات جرت في ظل وجود قوات عسكرية اجنبية(31) التنمية والحكم الصالح يمكنهما السير معاً اذا توفرت ارادة سياسية وتشريعات ضامنة ومؤسسات وقضاء مستقل ومساءلة وشفافية وتداول سلمي للسلطة ومجتمع مدني ناشط ورقابة شعبية واعلام حر ، اذ لا يمكن تحقيق احدهما دون الآخر الاّ استثناءً. أما القاعدة فهي التداخل والتواصل ما بينهما والاّ وصل كلاهما الى طريق مسدود. ولهذا فان مواجهة الاشكاليات والتحديات انما يستهدف اختيار السبل الصحيحة والمناسبة لإحداث التنمية الانسانية المنشودة والشاملة وفي ظل حكم صالح (راشد) ورقابة فعالة للمجتمع المدني.المصادر والهوامش(1) يمكن اقتباس الفقرة الآتية من "لسان العرب" لإبن منظور التي يمكن أن تستدل على " الحكم الصالح " أو تقدم مقاربة له ، حيث جاء فيه "من صفات الله الحكم والحاكم. بمعنى هو القاضي يحكم الأشياء ويتقنها. وقيل حكيم ذو الحكمة (أي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم) وبمعنى قادر عليه . حكمت بمعنى منعت : قيل الحاكم بين الناس ، لأنه يمنع الظالم عن الظلم (أي الفصل بين الحق والباطل ، أو بين الظالم والمظلوم). أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم ، والحكم: هو القضاء وجمعه أحكام ، حكم: قضى والحاكم منفذ الحكم . حكمنا فلاناً : أجزنا له الحكم بيننا، الإحتكام، المحاكمة: المخاصمة إلى الحاكم" . انظر : شعبان، عبد الحسين- تقرير التنمية الانسانية العربية لعام 2004، " نحو الحرية في الوطن العربي" الورقة الخلفية الخاصة بالقهر السياسي. كذلك مساهمة الباحث في محاضرة في منتدى الدوحة الخامس للديمقراطية والتجارة الحرة، 29-30 آاذر (مارس) 2005 بعنوان " الاطار الدولي للديمقراطية والحكم الصالح- مقاربات فكرية وحقوقية" وكذلك بحث بعنوان " المعوّقات والتحديات أمام الديمقراطية والحكم الصالح" مقدّم الى المنظمة العربية لمكافحة الفساد، بيروت، مطلع العام 2006.(2) انظر: فرجاني ، نادر – تعقيبه على ورقة حسن كرّيم بعنوان، مفهوم الحكم الصالح، كتاب " الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية" المؤلف : جماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، كانون الاول (ديسمبر)، 2004، ص 124 و125.(3) UNDP- Reconceptualizing governance for sustainable Human Development : Discussion paper 2, P 5 انظر كذلك : UNDP,Governance for sustainable Human , Development UNDP policy document (New York) UNDP.1997(4)انظر: شعبان، عبد الحسين- الورقة الخلفية لتقرير التنمية الانسانية العربية لعام 2004، مصدر سابق.(5) انظر: كريّم، حسن – مفهوم الحكم الصالح، مجلة المستقبل العربي، السنة 27، العدد 309، تشرين الثاني (نوفمبر)، 2004، ص 40-65. انظر: كتاب " الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية" مركز دراسات الوحدة العربية، كانون الاول (ديسمبر) 2004، ص 95-123.(6) انظر : تقرير التنمية الانسانية العربية لعام 2002 : خلق الفرص للاجيال القادمة، برنامج الامم المتحدة الانمائي والصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي، 2002، ص 18.(7) انظر: governments and development- world bank, Washington, 1992,P9(8) انظر: تقرير التنمية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا- الحكم الجيد لاجل التنمية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا: تحسين التضمينية والمساءلة، البنك الدولي، واشنطن، 2003، ص 3.(9) انظر : كريّم، حسن- مفهوم الحكم الصالح، مصدر سابق.(10)what is good governance_un ESCAP, p3 http://www.gdrc.org/u-gov.escap-governance.html(11) قارن: كتاب بعنوان: "مقاربة حول أنظمة الحكم والديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية"، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي اسيا (الاسكوا) بالتعاون مع مؤسسة كونراد اديناورالالمانية, نيويورك 2005 ص 13.قارن كذلك : The world Bank, better governance for development in the Middle East and North Africa enhancing (31) inclusiveness and accountability, 2003, UNDP, Arab Human Development Report, 2002; ESCWA, good governance:Enhancing macro-management in the ESCWA region, 2001(12) أنظر: اشكاليات الديمقراطية في العالم العربي، 2004 ، ص18 ESCWA.(13) أنظر : مقاربة حول أنظمة الحكم والديمقراطية، ESCWA ، مصدر سابق ، ص 10.(14)انظر: برنامج الامم المتحدة الانمائي لعام 2002، مصدر سابق ص 103 -106 والحكم الصالح: تحسين الادارة الكلية في منطقة الاسكوا، نيويورك 2003 ص 15-45. نقلاً عن حسن كريم، مفهوم الحكم الصالح، مصدر سابق ، ص 108وتقرير التنمية الانسانية لعام 2004 (البرنامج الانمائي للامم المتحدة).(15) حسب تقرير منظمة العفو الدولية لعام 1998 Amnesty International فان هناك ما يزيد عن مليار و300 مليون انسان يعيشون بدخل لا يزيد عن دولار واحد يومياً، وحسب التصنيف الاقتصادي فانهم يقعون دون خط الفقر، لندن، 1998.(16) انظر: النويضي، عبد العزيز- الحق في التنمية بين القانون الدولي والعلاقات الدولية. دار النشر بلا، 1998، ص2.انظر كذلك : عبد اللطيف، عادل (مستشار برنامج الامم المتحدة الانمائي) مداخلته في الندوة الاقليمية حول حقوق الانسان والتنمية، القاهرة 7-9 حزيران (يونيو)1999، انظر: كتاب حقوق الانسان والتنمية اصدار المنظمة العربية لحقوق الانسان وبرنامج الامم المتحدة الانمائي، تقديم فواز فوق العادة ومحمد فائق، تحرير محسن عوض، القاهرة، ط1، 1999، ص 90.(17) انظر : باجي، جون، مداخلته في ندوة القاهرة حول حقوق الانسان والتنمية،مصدر سابق، ص 94.(18)Vasak, K-A30 years struggle. The sustained efforts to give force of law to the Universal Declaration of Human Rights, UNESCO Courier, Paris, 1977.(19) قارن: النويضي، عبد العزيز- الحق في التنمية، مصدر سابق، ص 20.(20) انظر: روبنسون، ماري، مداخلتها في ندوة القاهرة حول " التنمية وحقوق الانسان" مصدر سابق، ص47. (21) قارن الشرعة الدولية لحقوق الانسان الامم المتحدة، الرسالة رقم 2، جنيف 1988.(22) انظر الدراسة القيمة التي تقدمت بها الاستاذة كريمة كريم الى ندوة القاهرة حول " حقوق الانسان والتنمية"، مصدر سابق، ص 99-100 وتشير الباحثة الى ان ثمة دراسات ظهرت تدعو الى " الحق في المساعدات المالية".(23) حول دور المنظمات غير الحكومية، انظر: الورقة التي تقدمت بها الدكتورة اماني قنديل في ندوة القاهرة، حول " حقوق الانسان والتنمية" حيث تناولت دلالة المدخل التنموي لدور المنظمات غير الحكومية NGO، والعوامل التي تؤثر في صياغة هذا الدور. وبيّنت الورقة ان الازمات الاساسية التي تشهدها الدول النامية ، تؤثر في صياغة ادوار المنظمات غير الحكومية ورصدت ثلاث ازمات مؤثرة هي : أزمة " الشرعية" وأزمة " الهوية" وأزمة " العقلانية العملية"، مشيرة الى اهم ما يواجه هذه المنظمات من قضايا في مقدمتها: "النخبوية" و " الثقافة المدنية" و " المشاركة" و " الديمقراطية وادارة الحكم" و " استقلالية" المنظمات غير الحكومية. انظر كذلك: المقدمة التحليلية للاستاذ محسن عوض، مصدر سابق، ص 25-26.(24) قبل تبني الاعلان ، سبق للجمعية العامة أنْ أنشأت فريق العمل حول الموضوع، وقبل ذلك وردت اشارة لها في القرار 46/34 في 23 تشرين الثاني(نوفمبر) 1979 بان الحق في التنمية هو حق من حقوق الانسان. انظر: النويضي، عبد العزيز، الحق في التنمية، مصدر سابق ، ص 45. (25) اعلان الحق في التنمية- اصدار الامم المتحدة، ادارة شؤون الاعلام، نوفمبر 1990.قارن ايضا: النويضي، عبد العزيز: حق التنمية، مصدر سابق.(26) قارن: المحجوب، عزام - ورقته المقدمة الى ندوة القاهرة، حول حقوق الانسان والتنمية- والموسومة " علاقة التنمية بحقوق الانسان" ، مصدر سابق، ص 194.(27)انظر: بالتفصيل الكتاب الغني بالتحليل والمعلومات للفقه النظري والعملي بخصوص التنمية، للباحث الدكتور النويضي، عبد العزيز، الحق في التنمية، مصدر سابق.(28) انظر مداخلة الباحث في ندوة القاهرة حول " حقوق الانسان والتنمية"، حيث ورد في ورقته التعقيبية على الدكتور محمود عبد الفضيل ومحسن عوض، ان العولمة تشكل تهديداً دولياً حقيقياً للتنمية المستقلة، مشيراً اليها كشكل من اشكال الهيمنة الجديدة وجزء من الصراع الايديولوجي على المستوى الدولي، الذي انتقل من طور الى طور خصوصاً بانهيار نظام القطبية الثنائية، وتحكّم لاعب أساس في اللعبة الدولية ومحاولة فرض نموذجه الاقتصادي والسياسي. واذا كانت الحرب الباردة قد طبعت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحدد الغرب لنفسه هدفاً واضحاً وهو القضاء على "امبراطوريات الشر" والمقصود بها الكتلة الاشتراكية وحركات التحرر الوطني في البلدان النامية، فان العولمة الان استبدلت ذلك بالاسلام بما فيه المنطقة العربية في محاولة لفرض الهيمنة.وتطرق الباحث الى الحصار وعلاقته بالتنمية وحقوق الانسان، فاشار الى ان الحصار الذي فرض على العراق في 6 آب (اغسطس) عام 1990 إثر احتلال القوات العراقية للكويت في 2 آب(اغسطس) من العام نفسه، ثم تلا هذا القرار قرارات صدرت ضمن الفصل السابع الخاص بالعقوبات وتوجّت بالقرار 687، الذي كنّي ابو القرارات ليعكس نتائج الحرب وليقرّ نمطاً جديداً وغريباً في التعامل الدولي، يعدّ جريمة دولية ونوعاً من انواع حرب الابادة الجماعية الطويلة الامد الاكثر خبثاً ومكراً وألماً.انظر كذلك: شعبان، عبد الحسين، الانسان هو الاصل، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، القاهرة،2002، ص 120 وما بعدها.(29) انظر بحثنا الموسوم الحصار الاقتصادي وتشريع القسوة، مجلة الزمان الجديد، أيار (مايو)2000، كذلك محاضرتنا عن نظام العقوبات بعنوان " الحصار الاقتصادي وحقوق الانسان" كازابلانكا، نيسان(ابريل)، 1999، المؤتمر الاول للحركة العربية لحقوق الانسان، كذلك حوارات وبحث في كتاب : العراق تحت الحصار، بمساهمة د. عزيز الحاج، د.وميض عمر نظمي، جورج غالوي، وعبد الحسين شعبان، مركز البحوث العربية، القاهرة، 2000.(30) انظر: فائق، محمد – معوقات التنمية " في كتاب (الامعان في حقوق الانسان) "، تأليف هيثم المناع، دار الاهالي، دمشق، 2000، ص 119-126.(31) انظر: ظاهر، مسعود، الامن الثقافي والتنمية المستدامة في عصر العولمة ورقة عمل مقدمة الى المؤتمر السنوي الثاني بعنوان" مؤتمر حقوق الانسان في اطار العدالة الجنائية"، مركز عمان لدراسات حقوق الانسان، عمان، 27-29 حزيران (يونيو) 2006.

الأحد، 18 نوفمبر 2007

التنمية البشرية والحكامة/الحكم الراشد
ـــ
ـــ
بحث علمي من إعداد وتقديم:
الدكتور الأخضر عزي: أستاذ مكلف بالدروس، جامعة محمد بوضياف –المسيلة-الجزائر.
الدكتور غالم جلطي: أستاذ مكلف بالدروس، جامعة أبي بكر بلقايد –تلمسان-الجزائر.
ــــــــــــ
تمهيد حول الخلفيات الفكرية للحكم الراشد :
تصارع الجزائر وتجابه اليوم وأكثر من أي وقت مضى أزمة كبيرة ومعقدة وعميقة، رغم الإمكانيات المتاحة لها.، ويمكن النظر إلى ذلك بنظرة ليست تشاؤمية في الواقع، لكن هناك مؤشرات ذاتية تجعلنا نعتقد أن الخروج من هذه الأزمة ليس في الأجل القصير، فهذه الأزمة يمكن أن تكون وفق علاقة على طريق متشعب نظرا للهزات السياسية والاقتصادية، وهذا ما يؤكد أكثر فأكثر عدم فاعلية سيرورة المؤسسات التي كانت موجودة قبل الأزمة العميقة التي عرفتها الدولة الجزائرية، وبعد اقامة وتفعيل المؤسسات خاصة المحلية منها المنتخبة وتلك الإقتصادية التي لا زالت لم تنشط العمل والفعل الحركي بعد العديد من التجارب التي قامت بها الجزائر ومنذ اشتداد الأزمة عام 1992م. لكن المجتمع، والمجتمع وحده بقي يقاوم يوميا ليس فقط من ناحية الرد الرفضي الصامت للعنف واللإستقرار ولكن كذلك تجاه التوترات التطبيقية لبرنامج التعديل الهيكلي، خلال الفترة الحرجة (1995- 1998م)، مما جعل المجتمع يتساءل عن مستقبل الأجيال من السكان النشيطين، وتحديدا الأجيال الصاعدة في الوقت الراهن تحت ظروف عدم الحوار البناء والهجرة القسرية وغير الموفقة للأدمغة، وزيادة التهميش واستراتيجية الظرفية وتسيير الأزمة، كما كان يبرر الفعل غير اللائق للمسيرين، مما أدى إلى تفاقم الآفات الإجتماعية التي توسعت وازدادت حتى في المدن والقرى الجزائرية داخل الجزائر العميقة.
نلاحظ في أيامنا هذه أن الموارد المتاحة للمجتمع الإنساني أكثر محدودية من اي وقت مضى، بينما التحديات التي تواجه الدول والحكومات وكذا المنظمات والجمعيات تزداد بدورها تعقيدا وتدهورا، لذا فإن الشركاء والمتعاملين بدأوا بالبحث الاستنباطي عن الكثير من الأفكار الجديدة والمدعمة بحركية يمكن أن تؤدي إلى إيجاد مدى كبير وعبره إيجاد موارد متعددة كفيلة بضمان السير العادي للحكومات، وتبعا لذلك استقرار الدول ضمن حدودها الإقليمية التقليدية مع ضمان حد من المخاطرة السياسية والاستراتيجية تجاه العالم الخارجي من واقع العولمة والكوكبية التي أفرزت الكثير من الآثار ذات المناحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهكذا أعطت الدول في إطار فلسفة الحكم الراشد[1][1] نفسا من التنوع والتجديد بإعطاء المجتمع المدني حركيةجديدة في إطار الشفافية والمساءلة ، وعبر الجمعيات المدنية كإطار نوعي للأبعاد التربوية والتثقيفية والتوعوية، فالجمعية من هذا المنظور هي التي تؤسس الإطار الحقيقي للمجتمع والرأي العام وبإمكانها تحفيز حركية جديدة ، إضافة إلى الأفكار الجديدة والاستفادة من توليفة مثلى وكبيرة من الآراء والتجارب المكتسبة التي تثري المبادلات بشتى أشكالها وصورها ، وبالتالي إيجاد مرونة في المشاركة والتنشيط عبر نماذج فعالة في اتخاذ القرارات خدمة


للمصلحة العامة. ويكون من المربح بالنسبة للجمعيات ،وكذا الدولة في إطار المعرفة الجديدة للحكم الراشد تجديد متواتر ومتزامن وبدون توقف لتشكيلاتها عن طريق ضمان التكوين والتوجيه لأفراد المجتمع ، ويبقى متخذو القرارات المسيرة لكيان قوة الدولة بمثابة عنصر القطب الحيوي والديناميكي في الاستماع إلى انشغالات الرأي العام خدمة للديمقراطية والمشاركة. ولا بد من الإشارة إلى عنصرين مهمين يساهمان في بلورة قوة الدولة ويتمثلان في:
1- 1- زرع ثقافة التحليل: يقصد بذلك تلك المحاولات أو النظرات التي تبرز مميزات المحيط والمنظمات مثل روح الانفتاح التي تنشط وتزداد عبر طرح العديد من الأسئلة الاستنباطية المبنية على فرضيات علمية تجد لها أرضية التطبيق الميداني، و يلي ذلك تحليل دقيق للإجابات المحصل عليها مع إضافة طموح التعلم والتجند والالتزام التي بامكانها مستقبليا قبول كل ما من شأنه أن يرمز لروح التغيير الذي هو أساس بناء قوة الدولة كما أشارت إلى ذلك w.k kellog foundation, 1998.
إن الحكم الراشد أو الحاكمية هي مجموعة القواعد الطموحة الموجهة لإعانة ومساعدة المسيرين للالتزام بالتسيير الشفاف في إطار هدف المساءلة على أساس قاعدة واضحة المعالم وغير قابلة للانتقاد أحيانا كون كل الأطراف الفاعلة عبر النشاطات المتعددة تساهم في ذلك أي في مجال التسيير، وقد أصبحت الحاكمية الجيدة هي الكلمة لمحورية للتنمية الدولية وهي مطبقة في كل القطاعات وقد ظهر هذا المصطلح بشكل جلي في حقبة الثمانينيات أي في الوقت الذي بدىء فيه بالتطبيق الميداني لبرامج التعديل الهيكلي والتي تهدف إلى خلق النمو الاقتصادي، إلا أن ذلك لم يتحقق في كثير من البلاد النامية، بمعنى ظهور صعوبات كثيرة وجادة حالة دون تطبيق هذه البرامج، وقد تم تشخيص هذه الصعوبات فتبين أن هناك أخطاء في تسيير الأعمال العمومية والتي مردها عدم الترجيح الاحصائي والميداني وكذا عنصر الأبوية المطلقة ونقص الشفافية لدى الحكومات، وعليه فقد عرف البنك الدولي (1992) الحكم الراشد بأنه الطريقة التي يمارس بها السلطة لأجل تسيير الموارد الاقتصادية والاجتماعية لأي بلد بغية التنمية، أما البنك الدولي، فإن الحكم الراشد مرادف للتسيير الاقتصادي الفعال والأمثل وللإجابة على مختلف الانتقادات الخاصة بالمجموعات الدولية للتنمية التي تتهم وتشكك في الاصلاحات الهيكلية المسيرة بطريقة علوية أي من الأعلى نحو الأسفل والتي أدت إلى فراغ مؤسساتي بدل تعبئة القدرات الخلاقة الترقوية الذاتية للمجتمع الذي يزخر بها، وهكذا نجد أن لجنة المساعدة التابعة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE قد أنشأت فريق عمل حول التنمية التشاركية والحاكمية الجيدة بحيث ربطت بين الحاكمية الجيدة والتنمية التشاركية، وكذلك حقوق الانسان والديمقراطية، كما قامت بتعيين وتدقيق وتعريف إحترام القوانين وتسيير القطاع العام ومحاربة الرشوة وتخفيض النفقات العسكرية الفائضة والمبالغ فيها على اعتبار أن ذلك من أبعاد الحكم الراشد، وكان ذلك سنة 1995، وقد اقترحت لجنة الحاكمية الاجمالية (1995) تعريفا أكثر عمومية بموجبه أشير إلى أن الحكم الراشد هو مجموع الطرق المتعددة لتسيير الأعمال المشتركة من طرف الأفراد والمؤسسات العمومية والخاصة، وفي بداية سنوات التسعينيات وعندما انفجر نموذج التنمية الاشتراكية القائم على الملكية الجماعية لوسائل الانتاج كما يرى التيار الماركسي، بمعنى القائم على الدولة وحدها أي التركيز على الدولة بشكل ملفت للأنظار مثلما كان الرئيس الجزائري السابق الشادلي بن جديد يطلق عليها البقرة الحلوب، وكانت هذه الاستراتيجية السابقة تظهر تناحرا رغم وجود شبه سيطرة كلية للبراغماتية الاقتصادية القائمة على السوق والتي أصبحت بمثابة بيان فلسفي، لذلك لوحظ أن الخطاب الدولي حول التنمية بدأ يتشكل ويتركز حول دور الدولة تجاه المجتمع والقطاع العام، كما أن التقرير حول التنمية للعام 1997 والذي اتخذ من عنوان " الدولة في عالم متغير " قد أشار بما يؤكد أن الوظائف الأساسية للدولة في اقتصاد السوق الاجتماعي سوف تصحح نقائص فكرة كمالية السوق كما تساهم في عدالة وانصاف أكثر على أن تتركز أنشطة الدولة على مستويات متعددة للتدخل وعبر ثلاث عناصر أساسية هي:
التطور المتدرج لإثراء فكرة الحاكمية والحكم الراشد بين التنظير العلمي والتنظير الاستراتيجي
2- 2- المعاينة الثانية المؤكدة: لوحظ خلال الفترة السابقة شح في الموارد المتاحة المرتبطة بنقص تدفقات المساعدات العمومية بعد نهاية الحرب الباردة كما ظهر كذلك تهميش متزايد لبعض المناطق في العالم وخاصة منطقة الساحل الافريقي، وقد ثبت في مجال التجارة الدولية أن النسبة قد انخفضت من 3% إلى 1% من التجارة العالمية نظرا لاشكالية انخفاض أسعار المواد الأولية، والتي تشكل الأساس في صادرات البلدان النامية وخاصة البترولية منه، ولا يجب أن نغتر من الارتفاع العشوائي لأسعار البترول التي تجاوزت حدود 50 دولار للبرميل لأن هذا الأمر يبقى دوما مرتبط بعنصر المتغيرات الخارجية شأنه شأن التطورات المناخية التي يعرفها العالم منذ ثلاث سنوات (ابتداءا من سنة 2002)، فأمريكا والعالم الغربي يعيش على وقع ارتفاع أسعار النفط نظرا للتوقيف المؤقت لمعامل تصفية وتكرير النفط وكذلك موجة الصقيع والبرد التي تضرب العالم منذ هذه الحقبة، دون أن ننسى المؤثرات البيئية على الفلاحة والري والصيد البحري وغير ذلك مثل موجات الجراد والقوارض التي أتت على الكثير من المحاصيل الزراعية في البلاد النامية وبالتالي بقائها في الحلقة المفرغة للتبعية والتخلف خاصة من جانب المواد الغذائية الضرورية للسكان.
1- 1- الدولة في حد ذاتها.
2- 2- المجتمع المدني.
3- 3- القطاع الخاص.
إن الحكم الراشد يتطلب عدم استبعاد أي عنصر من النشاط الانساني في خدمة التنمية وأصبح هذا الحكم يشكل أحد الأحداث الملاحظة في التطور الحديث للرأسمالية والتي جاءت للتقليص والتحكم في إفراط طرح أدم سميث " دعه يعمل دعه يمر " لأن هذا الإفراط أوجد الكثير من الاتهامات النابعة من أن فكرة وشاح ومصيدة اليد الخفية والتي تضبط كمعيار للأهداف والأفعال الشخصية لم تؤد إلى تظافر الجهود لأجل خدمة الصالح العام، ومن نافذة القول فإنه مقبول وفي كل التجمعات الانسانية من أن حياة الجماعة ومصالحها المفهومة جيدا هي التي تجبر وتفرض قبل كل اعتبار للمصلحة الخاصة والفردية، وعليه فإن الحكم الراشد جاء لتصحيح أخطاء الدولة الحديثة.
لمحة عن خلفية فشل سياسات التنمية :
كل الباحثين في المجال السياسي و الاقتصادي يجمعون على أن عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية فشلت فشلا ذريعا في دول العالم الثالث، باستثناء بعض الدول، والدول العربية على وجه الخصوص و الجزائر على وجه التحديد بالرغم من أنها كرست مجهودات جبارة من أجل إحداث تنمية مستقلة مبنية على العدالة الاجتماعية و لبلوغ هذا الهدف تبنت استراتيجيات و نماذج تنمية مختلفة، و رغم كل الإصلاحات الاقتصادية المتتالية التي قامت بها معظم هذه الدول إلا أن النتائج جاءت مغايرة لطموحات شعوبها و لم يتم التوصل إلى أداء اقتصادي يحدث تنمية حقيقية، و بقيت قطاعات عديدة مهملة حيث تأكد أن التطور الاجتماعي أبطأ بكثير من التغير الاقتصادي. لهذا أصبح من الأهمية بمكان دراسة ومعرفة أسباب الفشل، إلا أنه لا يجب البحث عن هذه الأسباب في تقنيات تحضير مخططات التنمية أو في عجزها وإنما يتطلب الأمر البحث عنها في طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي و السياسي وكيفية عمله، فأصبحت إذا طريقة وأسلوب الحكم في قفص الاتهام نظرا لما آلت إليه نتائج سياسات التنمية الاقتصادية في معظم الدول النامية. الأمر الذي يؤدي بنا إلى طرح السؤال التالي:
ما هي الشروط السياسية للتنمية الاقتصادية ؟
منذ أن ظهرت أنظمة الحكم المختلفة في الحقبات التاريخية المختلفة إلى أن برزت الحكومات بصورها الحالية على اختلاف أنماطها و تشكيلاتها بالرغم من الاختلافات في شكل الحكومات، إلا أنها مازالت تبحث عن أسلوب و طريقة الحكم و القيادة للوصول إلى طريقة مثلى للأداء المتميز ولقد ساهمت ثورة المعلومات التي ظهرت خلال القرن العشرين بصورة فاعلة في تطوير أداء الحكومات .
إلا أن المشكلة التي تواجه دول العالم الثالث من حيث أداء الحكومات ترتبط بالكيفية التي يمكن أن تحافظ بها هذه الدول على السلطة لها أثر مباشر على أداء الحكومات فعدم الاستقرار السياسي يعتبر المعوق الأساسي في مسيرة أداء الحكومات في ممارسات أنشطتها المختلفة بصورة متميزة، فكثير من دول العالم الثالث تضع برامج مثالية ولكنها تفشل في تطبيقها عل أرض الواقع بسبب التفكير في الحفاظ على السلطة.
الشروط السياسية للتنمية :
في ظل التطورات الكبيرة و المستمرة التي تشهدها مختلف أدبيات التنمية، توصلت مختلف الدراسات المعاصرة إلى إمكانية حصر الشروط السياسية، و ذلك بعد أن حسم الجدل الذي طالما عكس تباينا تنظيريا و ايدولوجيا في هذا المجال لصالح مجموعة من المفاهيم حيث تم إعادة توجيه دراسات التنمية نحو مسارات جديدة تؤكد على صلاحية مجموعة من القيم والآليات الصالحة للتطبيق على كافة المجتمعات بدون تمييز بحيث يقود الالتزام بها بالضرورة إلى حسن الحكم أو الإدارة الجيدة لشؤون الدولة و المجتمع (الحكم الراشد) والذي ترتبط بدورها بكل من الشفافية و توسيع نطاق المساءلة، وعلى هذا النحو برزت مفاهيم حسن الحكم و الشفافية والمساءلة كشروط سياسية للتنمية في ظل المستجدات على الساحة الدولية، كما تنامى على نفس الصعيد الاهتمام بمجموعة المخاطر التي يمكن أن تهدد تواصل العملية التنموية ومن أهمها الفساد الإداري والسياسي، نظرا لما تمثله من تأثير سلبي على كل من مشروعية النظام واستقراره في كثير من دول العالم الثالث.
كما تجدر الإشارة إلى أن هذا الطرح المعاصر حرص رغم ذلك على ضرورة الاهتمام بالخصوصية الثقافية لدول العالم الثالث، حيث تؤِكد الاتجاهات المعاصرة للتنمية على أهمية تفسير هذه الأخيرة داخل كل مجتمع انطلاقا من تجاربه الخاصة إلى جانب حرصها على التعرف على مختلف السمات المشتركة للتنمية من منظور مقارن.
يعد مفهوم حسن الحكم كأحد الشروط الأساسية للتنمية أكثر المفاهيم إثارة للجدل في دول العالم الثالث، نظرا لما يطرحه من آليات و منظومة قيمية قد تتشكك بصددها بلدان العالم الثالث، وهو ما يسمح بحيز واسع للاختلاف بصدده.

تعريف الحكم الراشد:
وجدنا أن هناك تباين في انتساب أصل مصطلح الحكم إلا أن هناك تقارب كبير في تعريفه و نورد هذه التعاريف فيما يلي:
- ظهر مصطلح الحكم الراشد في اللغة الفرنسية في القرن الثالث عشر كمرادف لمصطلح "الحكومة" ثم كمصطلح قانوني (1978) ليستعمل في نطاق واسع معبرا عن "تكاليف التسيير" (charge de gouvernance) (1679) و بناء على أساس هذا التعريف، ليس هناك شك أو اختلاف حول الأصل الفرنسي للكلمة .
- كلمة الحاكمية أصلها إنجليزي فهو مصطلح قديم، أعيد استعماله من قبل البنك الدولي في منتصف الثمانينات حيث أصبح من الاهتمامات الكبرى في الخطابات السياسية و خاصة في معاجم تحاليل التنمية، و يمكن شرحه بأنه " طريقة تسيير سياسة، أعمال و شؤون الدولة".
كما أن هذا المصطلح فرض لتحديد مجموعة من الشوط السياسية التي من خلالها وضعت في حيز التنفيذ المخططات التي تكتسب شرعية للعمل السياسي وفي نفس الوقت العلاقات مع الإدارة و مع القطب المسير و بقية المجتمع.
- يقصد بالحاكمية "gouvernance" أسلوب وطريقة الحكم و القيادة، تسيير شؤون منظمة قد تكون دولة، مجموعة من الدول، منطقة، مجموعات محلية، مؤسسات عمومية أو خاصة. فالحاكمية ترتكز على أشكال التنسيق، التشاور، المشاركة و الشفافية في القرار.
فهي تفض الشراكة للفاعلين و تقارب المصالح.
إن مفهوم الحاكمية يطرح ضمن إشكالية واسعة من الفعالية و النجاعة في العمل العمومي"l’action publique" و تهتم بالعلاقة بين السلطة والحكم.
فمفهوم الحاكمية يرتكز على ثلاث أسس رئيسية:
- الأساس الأول يتعلق بوجود أزمة في طريقة الحكم (crise de gouvernabilité) فقدان مركزية هيأة الدولة و ضعف الفعالية و النجاعة في الفعل أو العمل العمومي.
- الأساس الثاني يظهر أن هذه الأزمة تعكس فشل أو ضعف الأشكال التقليدية في العمل العمومي.
- الأساس الثالث يتعلق بظهور شكل جديد للحكم أكثر مواءمة للمعطيات الحالية.
و دائما في دور المحفز صندوق النقد الدولي و البنك الدولي يدافعان اليوم على مبادىء الحكم الراشد كأساس للسياسات الاقتصادية، و يعتبر الحكم الراشد ضمانا لتوفير الشروط الملائمة للحصول على نمو هام يستفيد منه المحتاجين ويضمن التطور الاجتماعي للبلدان ذات الدخل المنخفض.
الحكم الراشد لا يمكن أن يكون إلا في كنف السلم الاجتماعي و الاستقرار السياسي و ترقية حقوق الإنسان و بسط قوة القانون.
معايير الحكم الراشد: لا سبيل لإرساء الحكم الراشد إلا:
- - باقامة دولة الحق والقانون،
- - ترسيخ الديمقراطية الحقة،
- - التعددية السياسية،
- - المراقبة الشعبية التي تتولاها مجالس منتخبة بشكل ديمقراطي (البرلمان)،
- - الشفافية في تسيير شؤون الدولة،
- - المحاسبة التي تقوم من خلال بناء سلطة قضائية قوية،
- - حرية التعبير وحرية الرأي تقوم بها وسائل الإعلام من خلال حرية الاطلاع و الاستقصاء و التبليغ.
الفساد الإداري و السياسي أهم معوقات التنمية في الدول النامية :
برغم تعدد معوقات التنمية في البلدان النامية إلا أن قضية الفساد الإداري و السياسي تشغل موقعا من مواقع الصدارة بما يحتم ضرورة مواجهتها للحد من آثارها السلبية المختلفة على المسار التنموي. و لعل مما يجب التنويه إليه أن السنوات الأخيرة قد شهدت اهتماما متزايدا بقضية الفساد و ذلك ما ظهر من خلال مناقشات الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي و تقارير التنمية الدولية هذا إلى جانب جهود منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية في هذا المجال.
كما يمكن تصنيف الفساد إلى ثلاث أقسام رئيسية:
1- عرضي ،
2- مؤسسي،
3- منظم
و عليه يمكن القول أن للفساد أشكالا كثيرة، فقد يكون فرديا أو مؤسسيا أو منظما، و قد يكون مؤقتا أو في مؤسسة معينة أو قطاع معين دون غيره. وأن أخطر هذه الأنواع هو الفساد المنظم حين يتخلل الفساد المجتمع كاملا و يصبح ظاهرة يعاني منها هذا المجتمع.
تتفق آراء المحللين على أن الفساد ينشأ و يترعرع في المجتمعات التي تتصف بما يلي:
1. 1. ضعف المنافسة السياسية.
2. 2. نمو اقتصادي منخفض وغير منظم.
3. 3. ضعف المجتمع المدني و سيادة السياسة القمعية.
4. 4. غياب الآليات و المؤسسات التي تتعامل مع الفساد.
و ترجع النظرية الاقتصادية الفساد إلى البحث عن الريع، و أما علماء السياسة فقد تباينت وجهات نظرهم، فمنهم من يرى أن الفساد دالة لنقص المؤسسات السياسية الدائمة و ضعف و تخلف المجتمع المدني.
و هناك فئة من السياسيين ترى أن الفساد وسيلة للمحافظة على هياكل القوى القائمة الفاسدة و نظم السيطرة السياسية.
وللفساد آثار وخيمة على المجتمع بكامله لهذا أصبح القضاء على الفساد الإداري و السياسي و اقتصادي إحدى دعائم الحكم الراشد.
و يبدو أن هناك اتفاق حول مجموعة من الشروط الواجب توفرها كشروط سياسية للتنمية و التي تتمثل فيما يلي:
1- أهمية تمتع النظام بشرعية تستند إلى القبول الشعبي وفاعلية الأداء و هو ما تفتقر إليه كثير من دول العالم الثالث، بما يمكن أن يعكس مظهرا سياسيا من مظاهر سوء الحكم.
2- وجود منظومة قيمية تعكس ثقافة سياسية تسهم في تحجيم الصراعات المحتملة بين كل من الحكام والمحكومين وتحد من استخدام العنف في ظل علاقة تنافسية غير صراعية.
وهنا تجدر الإشارة إلى ما تشهده كثير من دول العالم من تصاعد لحدة المواجهات في ظل تراجع ملحوظ لروح التسامح وقبول الرأي الأخر يعكس في مجمله أحد أزمات التنمية السياسية في هذه البلدان.
3- ضرورة مواءمة الهياكل الاجتماعية والسياسية للتغيرات الاقتصادية، بما يجنب النظام التعرض لمزيد من الضغوط وعدم الاستقرار، الذي يمكن أن يمثل عائقا لعملية التحول الديمقراطي.
4- السماح بدور المنظمات المستقلة في مواجهة الدولة خاصة فيما يتعلق بممارسة القوة السياسية و صياغة وتطبيق السياسات إلى جانب عمليات التجنيد السياسي، حيث يمثل هذا الشرط أساسا سياسيا للتنمية يعكس تفاعلا متوازنا بين كل من الدولة والمجتمع في ظل علاقة تعاونية تسمح للدولة بتنفيذ برامجها التنموية والقيام بالتوزيع العادل للموارد والحفاظ عل النظام دون اللجوء إلى الوسائل القهرية.
5- قبول دور للفاعلين الدوليين على كل من الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري.
الاستراتيجيات التي تحدد ملامح الحكم الراشد وتتمثل فيما يلي:
1- البعد المؤسسي :
حيث يضمن ترسيخ دعائم الإدارة الجيدة لشؤون الدولة والمجتمع و توفر كل من الشفافية و المساءلة تستدعي إرساء دعائم هياكل مؤسسية تتواءم و مرحلة التحول الديمقراطي الذي يرتبط بدوره بالمتغيرات السابقة.
2- البعد الاقتصادي و تحسين مستوى الأداء :
لا يجوز إغفال أهمية البعد الاقتصادي، حيث يمثل هذا البعد أحد أهم محاور و آليات حسم الحكم كخطوة على طريق التحول الديمقراطي، حيث لم يعد الاهتمام محصورا في تحديد مستويات النمو الاقتصادي و إنما امتد ليشمل وجوب تحسين مستويات الأداء الاقتصادي لمواجهة مختلف الأزمات و ذلك عبر إصلاحات هيكلية.
3- علاقة الدولة بمؤسسات المجتمع المدني كأحد محاور الحكم الراشد :
تعكس طبيعة علاقة الدولة بمؤسسات المجتمع المدني أحد أهم محاور حسن الحكم بحيث اعتبر التأكد على فعالية مؤسسات هذا المجتمع في مواجهة الدولة أحد الشروط الأساسية للتنمية. فالمجال الاجتماعي المستقل عن الدولة الذي يؤكد على وجود مجال عام للأنشطة التطوعية للجماعات يتيح قدرا من التوازن بين طرفي معادلة القوى في ظل خضوع مؤسسات المجتمع المدني للقانون، بما يضمن استقلالها عن أي توجهات أيديولوجية من جانب والارتفاع بمستوى المساءلة من جانب أخر.
4- دو ر الفاعلين الدوليين في دعم الشفافية و المساءلة :
تشير الإستراتيجيات الحالية للتنمية إلى موقع هام لدور الفاعلين في رسم وتحديد معالم المسار التنموي، وبطيعة الحال يتضح هذا الدور جليا في دول العالم الثالث من خلال دعم هؤلاء الفاعلين لبعض التوجهات التي تدعم مقولات واليات حسن الحكم بصفة عامة في هذه الدول، وذلك عبر مساعدات اقتصادية تقدمها الحكومات الأجنبية وبعض الوكالات الدولية، فالمساعدات الدولية عادة ما توجه على سبيل المثال لحفر التعددية كأحد الأبعاد المؤسسية للتنمية السياسية أو إلى دعم استقلالية المنظمات الشعبية وضمان انسياب المعلومات بما يضمن مزيد من الشفافية والمساءلة.
لكن هناك دراسات تشير إلى أن مصطلح الحاكمية قد ظهر عام 1937 وقد جسد ذلك الكاتب والاقتصادي الأمريكي Roland Coase في مقالته الشهيرة تحت عنوان the nature of the firm، وفي خلال حقبة السبعينيات فقد عرف بعض الاقتصاديين الحاكمية بأنها تمثل مختلف الاجراءات الموضوعة محل التطبيق من طرف المؤسسة لتحقيق تنسيقات داخلية كفيلة بتخفيض تكاليف وأعباء المبادلات التي يواجهها السوق حاليا، فالهدف الأساسي إذن هو تثبيت وتحرير القواعد الجديدة للعبة بين المسيرين والمساهمين، وعليه وتحت ما يعرف بالأثر المثلثي للعولمة والكوكبية المالية وكذا التداول السريع لرؤوس الأموال فقد أصبح المساهمون يطالبون بنموذج حكومة المؤسسة، ويمكن أن نستشف ذلك من خلال الآفاق الجديدة المقدمة والموفرة عبر الكوكبية المالية تحت تأثير إختلال ولا تنظيم الأسواق المالية فالحاكمية وعبرها الحكم الراشد تسعى إلى إحلال النقائص في حق الشركات عبر تسطير واجبات المسيرين تجاه المساهمين من حيث: الأمانة، الصدق، الاستقامة، الشفافية، الفاعلية وتطوير نتائج المؤسسة، وهذه هي النقطة المنطقية التي يستنبط منها لماذا يتم الاحتفاظ والاستفسار عن مخزونات الحافظات المالية في إطار يهدف إلى توعية المسيرين بخصوص قضية المساهم على اعتبار أنه العنصر المحرك للتنمية بشتى صورها، وفي سنوات الثمانينيات، فإن المؤسسات الدولية قد اقتنعت بعبارة good governance، والتي تترجم بالحاكمية الجيدة، ولأجل تعريف وتحديد خصوصيات الادارة الجيدة العمومية والتي يمكن تطبيقها على بلدان مطالبة أكثر فأكثر وفي إطار تبادل الفرص وتكافؤها لكي تضع الركائز الخاصة بالاصلاحات المؤسساتية اللازمة لنجاح كل البرامج الاقتصادية، فهم ينظرون تبعا لذلك إلى الحكم الراشد سواء كتسيير عمومي قائم على مبدأ المنظم، وعليه فإن الحكم الراشد سيسعى إلى اضعاف فكرة الدولة الحمائية l’etat providence.
الحكم الراشد والمسؤولية الإجتماعية للمؤسسات :
يهدف الحكم الراشد إلى تحقيق الاستفادة من السياسات الاجتماعية عبر أسلوب المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات RSE وكذا خصخصة المصالح العمومية فالمسؤولية الاجتماعية لمؤسسات مستمدة من طابعها الاختياري المرن والشامل بما يسمح ويشجع كل مؤسسة أيا كان حجم ونطاق أعمالها بأن تنتهج ما تراه مناسبا وملائما من الاجراءات والممارسات وفق امكاناتها وقدرتها المادية وبما يتجاوب مع حقائق السوق ومتطلباته، وهذا الأسلوب رديف للحكم الراشد، وهكذا نجد أن الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة السيد كوفي عنان طرح في إطار الملتقى الاقتصادي في دافوس بسويسرا خلال جانفي 1999، وأمام أعضاء الملتقى ما عرف بشعار " توجيه قوى الأسواق من أجل دعم المثل العالمية "، وبمقتضاه ظهر عهد جديد، وتم الاجماع على ذلك من طرف ممثلي قطاع الأعمال والمال والتجارة في العالم بحيث يقوم على أساس تكريس احترام عناصر المشاريع التجارية لمدونات ثلاث من الصكوك الدولية: الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في سنة 1948، إعلان المباديء والحقوق الأساسية في العمل الصادر عن منظمة العمل الدولية في العام 1998، وإعلان ريو الصادر عن مؤتمر الأرض في العام 1991، وتتلخص هذه المباديء في تسعة عناصر مبدئية رئيسية هي:
1- 1- احترام ودعم حماية حقوق الإنسان المعلنة عالميا.
2- 2- احترام حق التنظيم والمفاوضة الجماعية.
3- 3- كفالة عدم ضلوع المؤسسات المنضمة إلى الاتفاق العالمي في انهاك حقوق الانسان.
4- 4- القضاء على كافة أشكال العمل الجبري والقهري.
5- 5- القضاء الفعلي على عمل الأطفال.
6- 6- القضاء على التمييز بين الاستخدام والمهنة.
7- 7- دعم التدابير الاحترازية في مواجهة التحديات التي تتعرض لها البيئة.
8- 8- اتخاذ تدابير لتشجيع الاحساس بالمزيد من المسؤولية في المجال البيئي.
9- 9- تشجيع تطوير ونشر التقنيات البيئية غير الضارة بالانسان.
فيظهر جليا وأن هناك تكاملا بين الحكم الراشد وهذه المسؤولية، والتي تعرف بانها الإدماج الطوعي من طرف المؤسسات للإهتمامات الاجتماعية والبيئية في أنشطتها التجارية وعلاقاتها مع شركائها، وإن تطوير هذا المفهوم قد استنبط عبر الأخذ بعين الاعتبار لعودة الوعي المتزايد من أن النجاح التجاري المستديم لم يكن الوصول إليه وفقط عبر تعظيم الربح في الأجل القصير ولكن وكذلك عبر تبني سلوكات مسؤولة.
وإذا ما توسعنا في الطرح التاريخي لتطوير مفهوم الحكم الراشد، فسنجد أن البنك الدولي عام 1997 وخلال الأزمة الآسيوية يعترف أن السوق لا يمكنها ضمان تخصيص أمثل للموارد وكذلك ضبط الآثار الحساسة للعولمة والكوكبية، وقد توصلنا أخيرا إلى ما يعرف بمذهب الحاكمية العالمية والذي بمقتضاه يكون هناك افتراض ينطلق من أن التطبيقات التقليدية للحكومة القائمة على التعاون الدولي بين الدول والأمم لا يسمح أكثر بحلول المشاكل الناجمة عن العولمة، يتعلق الأمر إذن بتعريف هيكل قيم عالمية وكونية والتي تستقي مما يعرف بالممارسات الجيدة سواء على مستوى الأعمال أو على مستوى الحكومات، وكذلك المنظمات المكلفة بضبط العولمة، لأن هناك من يلقي باللائمة على المنظمات العالمية باستخدام مفهوم الحاكمية لمعالجة المسائل السياسية، وهي المسائل التي لا توجد لها في الحقيقة أية وصاية كما أن هناك من ينتقد اللجوء إلى الممارسات الجيدة لأنها لا تعبر عن الحقيقة المراد الوصول إليها.
بناءا على ما سبق ذكره، يمكن القول أن تطور مفهوم الحاكمية والحكم الراشد قد جاء من منبع محيط المؤسسة الخاصة من حيث أنماط التنسيق والشراكة المختلفة للسوق، ومن محيط المؤسسة تم الاتجاه نحو المحيط السياسي بمعنى تحويل أشكال النشاط العمومي وكذلك العلاقة بين الدولة والسوق والمجتمع المدني.
أزمة الحكم الراشد في المجتمع الدولي: مما لا شك فيه وأن مفهوم الحكم الراشد يقوم على فرضية أزمة الحاكمية في المجتمع الدولي والتي تتميز بثلاث مظاهر أو لنقل وقفات تكمن في التالي ذكره:
1- 1- ليس للسلطات العمومية دوما احتكار للمسؤولية فالحكم الراشد يشكل إجابة ممكنة لأجل إيجاد صيغة توافقية بين السياسة والاقتصاد والاجتماع عبر اقتراح أشكال جديدة للضبط والتعديل وبالتالي التصحيح.
2- 2- هناك أعوان من كل طبيعة ومن كل الفئات يطالبون أن يكونوا مشاركين في عملية صنع القرار وهم في نفس الوقت في وضعية اقتراح حلول جديدة للمشاكل الجماعية، فالحاكمية تضع النقاط على الحروف بخصوص تنقل المسؤوليات التي تحدث وتتم بين الدولة والمجتمع المدني وكذلك السوق.
3- 3- أي عون لا يملك لوحده المعارف والوسائل اللازمة لأجل الحل الانفرادي للمشاكل التي تطرح، فهناك عمليات التقاء ومفاوضة أصبحت ضرورية بين المتدخلين حتى وان كانوا متنافرين وغير متجانسين، لأن الحاكمية تستلزم المشاركة والمفاوضة والتنسيق، وعلى هذا الأساس فقد كانت هناك مناظرات بخصوص الحكم الراشد في الألفية الثالثة، فإن التحول الخاص بالاقتصاد الكلاسيكي المبني على أساس الطاقة المادة قد اتجه نحو اقتصاد جديد يسير على أساس الطاقة-الاعلام، بحيث يحول ويظهر القيمة المبذولة والمنشأة من طرف المؤسسات، وهناك كذلك ضرورة التحكم أكثر فأكثر في التحولات السارية المفعول وكذا القيام باسراع والتسريع في الاستلزامات، فهناك مفاهيم جديدة تبدو أكثر من ضرورية وتبعا لمحيطات وفضاءات أكثر فأكثر تعقيدا إضافة إلى حقيقة غير ملموسة مما يستلزم طرح سؤال محوري كالتالي: كيف يمكن تعظيم قدرات المؤسسات حتى تتمكن من انتاج أكبر قيمة مضافة ذات طابع اجتماعي خدمة للاقتصاد والمجتمع والدولة، التي لا يمكن أن تكون إلا قوية تحت كل الظروف؟
مظاهر ازمة الحكم :
لقد بدأت المجتمعات الدولية وخاصة الإفريقية منها والجزائر كبلد افريقي تهتم بالحكم الراشد على أساس مجموع القواعد المكتوبة وغير المكتوبة والتي أصبحت الموضوع المحبذ للكثير من الورشات واللقاءات العلمية الوطنية والدولية وتجمعات العمل، وقد أصبح الاقتصاد اليوم هو الشغل الشاغل لكل النقاشات السياسية ,ويظهر جليا أن الموضوع الذي يجمع بين الحاكمية و الخصخصة و تسيير الاقتصاد بطريقة مقارنة لا يمكن أن يكون أكثر عنصر من العناصر الحالية محل الدراسة، فالخصخصة مثلا وباعتبارها رافد للحكم الراشد ومنذ أكثر من أي وقت مضى كعنصر ازعاج للكثير من الدول وخاصة الافريقية والآسيوية منها، حتى أن هذا الموضوع كان محرما الكلام عنه في بلد كمصر حتى عام 1992، لكن أصبحت الخصخصة اليوم بمثابة الوصفة السحرية الغير قابلة للالتفاف والدوران ولكل السياسات الرشيدة في المجال الاقتصادي والاجتماعي من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وقد ذكر الرئيس النيجيري أوباسنجو سنة 2004 ما يلي: " نحن في افريقيا والعالم النامي نتقدم على طريق الديمقراطية، الحكم الراشد، وأتمنى ان نكون قادرين كذلك على حل وحماية المنازعات " من خلال هذا الطرح نلاحظ أن التنمية الافريقية أصبحت في قلب اهتمامات مسيري وقادة الدول الإفريقية، لأن المحيط أصبح دوما غير مؤكد ويزداد تعقيدا بفضل تعدد المعارف والقدرات والمعلومات التي تجعل من الفرد عاجز لوحده عن التحكم في التسيير فيجب الاعتراف أن كل فعل جماعي مهما كان شكله ومجال تدخله وكذا أهدافه يتطلب أن يكون مصمم وبصفة قيادية، فالحكم الراشد رديف للقيادة، وعليه فإن كل منظمة باعتبارها قناة اجراءات ووسائل للنشاط الجماعي مطالبة بأن يكون لها تسيير فعال، فلا بد من إرادة في تطوير استراتيجيات المشاركة لادماج المعنيين بالأمر في اعداد القرارات في ادماجها في بناء الاختبارات الجماعية.
لماذا الحكم الراشد؟ من خلال قراءاتنا المتعددة حول الحاكمية والحكم الراشد تبين أن هذا الموضوع الحساس والاستراتيجي كثير الانتشار في مناقشات مختلف التكتلات المحلية والاقليمية والدولية، وخاصة منذ الثمانينيات وفي سنوات التسعينيات وتجلى ذلك من محاولة الاجابة عن سؤال استراتيجي مبني من معاينتين يمكن ادراجهما كما يلي:
1- 1- المعاينة الأولى المثبتة: لوحظ فشل في السياسات المتبعة في العديد من البلدان السائرة في طريق النمو والتي ترجمت دوما بتبذير للموارد التي عبرت عما يعرف بسياسة المركبات الضخمة بانتاج شحيح بدل سياسة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والصناعات الصغيرة والمتوسطة الخالقة للثروة والتراكم الناتجين عن الفعالية في الانتاج وقد نتج عن السياسة الأولى مديونية مبالغ فيها وركود في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.
2- 2- اختيار وفرز المعطيات النوعية: إن المعطيات النوعية تكون متوافقة بشكل أو بآخر عندما تكون الإجابات الممكنة عن سؤال مطروح متعددة بغية إقامة وإعداد قائمة من الخيارات المعرفية كفيلة بتبني الأقوى منها ليس على أساس القانون البيولوجي البقاء للأصلح ولكن على أساس أن هذه الإجابات تبرز أصالة تفكير مجتمع البلد محل الدراسة وبعيدا عن الارتجالية والديماغوجية وحتى الشوفينية الضبابية، فإثارة استقراءات وملاحظات وأراء أو كلمات معطاة اعتياديا وفق إجابة عن أسئلة مفتوحة لما تكون هذه الأسئلة غير مستخرجة من اختيارات ووفق إجابات على أي مستوى من المستويات السلمية، فمن الأفضل ولأجل بناء قاعدة معلومات صلبة أن الأشخاص مطالبون بالإجابة تبعا لما يمكن تصوره في حدود معارفهم حتى وإن كانوا أميين، لهذا يجب أن يعطى الوقت اللازم لأجل تحليل المعطيات النوعية أكثر من الاهتمام بالمعطيات الكمية، لأن المؤسسات بإعتبارها كرافد من روافد الدولة مطالبة بإعداد استراتيجيات جديدة يتعين القيام بها وتسخيرها خدمة للتنمية المستديمة المرفقة بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات (R.S.E) وهي مطالبة كذلك بالولوج والتحكم في مختلف المجالات الحيوية للاقتصاد الوطني والجانب الاجتماعي والثقافي، مما يتطلب أن يكون الأمر ذا علاقة بأولويات تحددها كل دولة من واقع قدراتها المستنبطة من قياس عناصر قوتها، كما يجب إعداد تصور للنتائج المرتقب الوصول إليها، ولن يتأتى ذلك إلا بتبني الاستراتيجيات الكفيلة بالحصول على هذه النتائج المرتقبة، فلخلق نجاح في هذه النقاط الاستقطابية من ناحية الإطار المؤسساتي، يتعين على المؤسسات كروافد أن تقوم باختيارات حرة وواضحة المعالم لأجل تقييم أفضل وواضح وبطريقة مثلى للنتائج، لذا يتعين عليها ومنذ البداية الاعتماد على استراتيجيات واضحة المعالم من واقع النظرات الجديدة للحكم والتسيير والإرشاد المبني على الاكتشافات والابتكارات الجديدة في مجال إدارة الأعمال إن على المستوى الكلي أو الجزئي، لأن الحاكمية والحكم الراشد كمصطلح يتضمن اليوم وأكثر من أي وقت مضى الكثير من المعاني وأصبح يستعار من استراتيجياته الابتكارية المرنة الكثير من الاستخدامات في مجالات الاقتصاد، السياسة، التنمية المستديمة، التقدم مع تقليص حدة المشاكل...الخ، فمصطلح الحكم الراشد يرتبط بالعديد من أنواع السياسات العمومية و/أو الخاصة ويتميز بدلالة واقعية على مختلف المستويات الإقليمية للتدخل: فمن الحاكمية المحلية إلى الحاكمية العالمية، مرورا بالحاكمية الحضرية، إضافة إلى تلك الحاكمية المتعلقة بالمناطق الأوروبية والآسيوية للسياسات النقدية، التشغيل، المؤسسات، شبكة المعلومات والأنترنت، وبعبارة أخرى يمكن أن نتكلم كذلك عن الحاكمية الإجمالية، والمساهمة الرئيسية النظرية لمفهوم الحاكمية الجيدة أو الحكم الراشد جاءت من الكتاب الذي كان محل تقدير ونال صاحبه جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998، ويتلق الأمر بالبروفيسور المعروف Awartya sen، والذي يرى أن التطور الاجتماعي والديمقراطية هي عمليات تتدعم بصفة متعاضدة، فالديمقراطية تشكل جزءا لا يتجزء من التنمية والمترجم كتوسع في الحريات الحقيقية حيث أن الحريات الشخصية يجب أن يتم تقبلها، ومن هذا المنظور فأن التوسع في الحريات يشكل الهدف الأول والوسيلة الأساسية للتنمية، فأسلوب الحاكمية ومنه الحكم الراشد له الكثير من التأثيرات على سلوك الأفراد الذي ينعكس على سلوك المنظمات والحكومات والدول، فأسلوب المشاركة يؤدي شيئا فشيئا أو يقود إلى مؤسسات تتميز بخاصية المساواة والتي تحل محل المؤسسات السابقة ذات إدارة الأعمال الكلية والجزئية غير المرنة والتي بدورها جعلت من أفكار وسلوكات الأفراد شبه مسجونة ومقيدة كما عالج ذلك Das Gupta في دراسة حديثة، بحيث عكست هذه الدراسة سلوكات الأفراد في بناء الدولة القوية القائمة على الحكم الراشد، لأن ذلك هو الأسلوب الأمثل لتشجيع المسؤولية المحلية خاصة على مستوى الجماعات المحلية والحكم المحلي كما هو الشأن في بلد كالجزائر المتميزة بشساعة الانتشار الأفقي لمؤسسات الجماعات المحلية وما يحدث بها يوميا من مناوشات وصراعات تخفي غياب الحكم الراشد وتظهر أن الأشياء مجرد مجابهات عشائرية وحسد وبغضاء بحكم حب التفوق الأجوف وغلبة سيادة عقدة التسيير من منطلق التشهير بالقبيلة والعشيرة والدوار، فالأسلوب الجديد للحاكمية يشجع إذن المسؤولية المحلية كما ذكرنا ويزيد في الحراك الاجتماعي ويمكن أن يذهب لغاية التأثير على المعدلات الديموغرافية كما عالجها المنظر سابق الذكر، ولأدل على أهمية الحكم الراشد إن على مستوى الدولة أو جماعاتها المحلية في إطار اللامركزية، ما صرح به الرئيس الجزائري بوتفليقة قائلا: " لا يمكن إقامة الحكم الراشد بدون دولة القانون، بدون ديمقراطية حقيقية، بدون تعددية سياسية، كما لا يمكن أن يقوم حكم راشد إطلاقا بدون رقابة شعبية" يستخلص من هذا الطرح الاستراتيجي ما للحكم الراشد من دور فعال في التنمية المحلية وفي بناء الدولة القوية التي تبتعد عن سياسة الواجهة والبهرج السياسي العقيم المبني على الأكاذيب والمبالغة والتلاعب بعواطف الهيئة الانتخابية أثناء الاستحقاقات الوطنية.

الحكامة والتنمية العلاقة والإشكاليات

الحكامة والتنمية
العلاقة والإشكاليات
ما يزال الحديث عن التنمية الإنسانية المستدامة والحكامة (الحكم الصالح (الراشد)) في مرحلتهما الأولى، وبخاصة في عالمنا العربي والإسلامي، فحتى عهد قريب وربما قبيل صدور تقارير الأمم المتحدة الإنمائية، كان المقصود بالتنمية هو النمو الاقتصادي، واستبدل التركيز من النمو الاقتصادي، الى التركيز على مفهوم التنمية البشرية والى التنمية المستدامة فيما بعد، أي الانتقال من الرأسمال البشري الى الرأسمال الاجتماعي وصولاً الى التنمية الإنسانية ببعدها الشامل، أي الترابط بكل مستويات النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي، بالاستناد الى نهج متكامل يعتمد على مبدأ المشاركة والتخطيط الطويل الأمد في حقول التعليم والتربية والثقافة والإسكان والصحة والبيئة وغيرها، ويتوخى قدراً من العدالة والمساءلة والشرعية والتمثيل.
من هنا نشأت العلاقة بين مفهوم الحكم (الراشد) والتنمية الإنسانية المستدامة، لأن الحكم الراشد أو الحكامة هي الضامن لتحويل النمو الاقتصادي الى تنمية إنسانية مستدامة. ومع ذلك فقد ظل المفهوم بحاجة الى تأصيل خصوصاً في المنطقة العربية، التي تعاني من ضعف المشاركة ومركزية الدولة الشديدة الصرامة وعدم إعطاء دور كاف لهيئات الحكم المحلي، ناهيكم عن إبعاد مؤسسات المجتمع المدني من المساهمة وعدم توّفر بيئة صالحة سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية لذلك، سواء على صعيد التشريعات أو بسبب ضيق مساحة الحريات الخاصة والعامة وبشكل خاص الحريات الأساسية.
هذا المقال يناقش في إشكالية المفاهيم، لتنتقل الى المؤشرات والأبعاد بالنسبة للتنمية أو للحكم الصالح، لتضع محورية العلاقة بين التنمية والحرية وان لم تكن عملية شرطية، لكنها في نهاية المطاف لا بدّ أن تفضي إليها كفضاء لا غنى عنه، سواء من خلال الحكم الصالح أو العلاقة المتبادلة بين الديمقراطية والتنمية، وبعدها تتوقف الورقة عند سؤال التنمية والحكم الصالح... الى أين؟، لتخصص فقرة خاصة بإعلان الحق في التنمية الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1986.[1]

أولا:تحديــد المفاهيم
ما المقصود بالتنمية؟ هناك المفهوم الضيق المتداول أحياناً ببعده التقليدي، والذي يُقصد منه التنمية الاقتصادية. يقابله المفهوم الواسع، الذي يستند الى فكرة التنمية الإنسانية ببعدها الشامل، وكذا الحال بالنسبة لفكرة الحكم الراشد أو " الحكم الصالح أو " الجيد" أو " الرشيد" أو"الإدارة الرشيدة" والذي شاع استخدامه في السنوات الأخيرة [2].
فالمفهوم الضيق، والذي تُفضل أدبيات البنك الدولي استخدامه، يعتمد على فكرة الإدارة الرشيدة بدلالة النمو الاقتصادي، عندما يتم التطرق الى التنمية، في حين أن المفهوم الواسع يرتفع الى مستوى السياسة، فيعالج مسألة الحكم والعلاقة بين عامة الناس والإدارة الحاكمة، بما يدخل في ذلك مسألة الشرعية والمشاركة والتمثيل والمساءلة، إضافة الى الإدارة العامة الرشيدة باعتبارها مكوّنات للحاكمية الراشدة (الصالحة) كما يذهب الى ذلك تقرير التنمية الإنسانية العربية[3].
وتعد الحرية كفكرة جوهرية ومركزية في عملية التنمية الإنسانية، خصوصاً إذا اعتبرنا التنمية الإنسانية هي: " عملية توسيع خيارات الناس"، وبهذا المعنى، للناس ولمجرد كونهم بشراً، حق أصيل في العيش الكريم ماديا ومعنويا، جسداً وروحاً ......
هكذا إذا التنمية لا تعني مجرد تنمية الموارد البشرية، ولا حتى تنمية بشرية حسب، أي تلبية الحاجات الأساسية، لكنها تنمية إنسانية شاملة في البشر والمؤسسات المجتمعية لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.والمفهوم الواسع للتنمية الإنسانية يضيف الى الحريات المدنية والسياسية (بمعنى التحرر من القهر ومن جميع أشكال الحطّ من الكرامة الإنسانية، مثل الجوع والمرض والفقر والخوف) الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليصل الى قاعدة عريضة تعتمد على مبادئ حقوق الإنسان.
أما الحكامة فلا بد أن تعتمد على عدد من المحاور الأساسية منها: صيانة الحرية، أي ضمان توسيع خيارات الناس، وتوسيع المشاركة الشعبية والمساءلة الفعّالة والشفافية الكاملة في ظل فصل السلطات والتوازن بينها، وسيادة القانون والقضاء المستقل والنزيه والكفء، الذي تنّفذ أحكامه من قبل السلطات التنفيذية.
ثانيا:التنمية والحكامة: أبعاد ومؤشرات:
مرّ مفهوم التنمية بأربعة مراحل: المرحلة الأولى، جرى التركيز على النمو الاقتصادي، وفي المرحلة الثانية على التنمية البشرية وفي المرحلة الثالثة، على التنمية البشرية المستدامة، وفي المرحلة الرابعة، على التنمية الإنسانية بمعناها الشامل، واقترن هذا التطور بإدخال مفهوم الحكامة في أدبيات الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز، ولعل السبب في ذلك يعود الى أن بعض البلدان، التي حققت نمّواً اقتصادياً، لم تستطع أن تحقق تحسنّاً في مستوى معيشة غالبية السكان، وهكذا فان تحسن الدخل القومي لا يعني تلقائياً تحسين نوعية حياة السكان .
فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية عرف مفهوم"التنمية تطورا كبيرا منذ ذلك الوقت، ويعتبر مفهوم التنمية البشرية المتواصلة أو المستديمة الأكثر قبولا الآن. فلم يعد الأمر مقصورا على تحقيق معدل معقول للدخل الفردي، كما لم يعد معدل النمو الاقتصادي كافيا للحديث عن تحقيق التنمية. ويرتبط ذلك بأمرين لا بد من أخذهما في الاعتبار، الأمر الأول هو أن التنمية الاقتصادية – وإن كانت سياسية- غير كافية وحدها للحديث عن تنمية حقيقية، بل لا بد من إدخال عناصر أخرى تشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية، وقد تطورت نظرة البنك الدولي في هذا الميدان، حيث اتسع الأمر إلى قضايا التوزيع وحماية المهمشين، ونضيف إلى ذلك أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قد عمد منذ بداية التسعينات إلى إصدار تقرير سنوي عن التنمية البشرية المستدامة، وأدخل في هذا الصدد معايير جديدة لقياس معدلات التنمية لا تقتصر على مستوى الدخل الفردي، وإنما تراعي الجوانب الاجتماعية الأخرى مثل معدل الوفيات والأمل في الحياة، فضلا عن مدى توافر الخدمات الأخرى[4].
وركزت تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي PNUD منذ العام 1990، على مفهوم نوعية الحياة وعلى محورية البشر في التنمية وزيادة قدراتهم على الاختيار وتمكينهم من ممارسة هذه الخيارات وتفجير طاقاتهم الإبداعية، وتمكينهم من المشاركة في أمور حياتهم، وأصبح النمو الاقتصادي ليس غاية بحد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق التنمية، ومن واجب الحكم الصالح أن يتأكد من تحقيق المؤشرات النوعية، لتحسين حياة السكان وهذه المؤشرات تتعدى الجوانب المادية ليندرج فيها العلم والصحة والثقافة والكرامة الإنسانية والمشاركة.
ويحرص برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على نشر ما أطلق عليه مؤشر التنمية البشرية سنويا للتعبير عن هذه الأمور.وأما الجانب الثاني الذي عني به مفهوم التنمية البشرية فهو ضرورة تواصل أو اطراد التنمية بين الأجيال.
لا يمكن إذا الجزم بعلاقة شرطية مطلقة بين التنمية والحرية، لكن انعدام أو ندرة الأخيرة سيؤدي الى تقليص حجم التنمية ويؤثر مستقبلا على استمرارها، إنْ لم يكن تراجعها وهو ما بينّته التجربة التاريخية.فقضايا التنمية لا يمكن عزلها عن فكرة الحرية، فالدعوة إلى الحرية واحترام حقوق الإنسان ليس ترفا تتمتع به الدول المتقدمة، في حين أنه ينبغي على الدول النامية أن تؤجل البحث فيه إلى حين وضع أسس التقدم الاقتصادي، كما لو كان هناك تعارض أو تناقض بين التنمية والديمقراطية.
يمكن القول أن مؤشرات التنمية الإنسانية المستدامة تتلخص في توسيع قدرات الناس وخياراتهم والتعاون بتحقيق التنمية وعدالة التوزيع والاستدامة، أي التواصل في العيش الكريم والأمان الشخصي دون خوف أو تهديد، ويذهب تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2000 الى إضافة: الحرية والحق في اكتساب المعرفة والشفافية وتمكين المرأة باعتبارها مؤشرات نوعية لا تتحقق إلا بوجود نظام إدارة حاشد يضع السياسات ويسعى لتطبيقها[5]. وقد كشف تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004 عن النقص الفادح في الحريات وبخاصة السياسية والمدنية ونقص المعرفة والثقافة والنظرة غير المتوازنة الى حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل ناهيكم عن الموقف من حقوق الأقليات.. وقد كشف تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004 عن النقص الفادح في الحريات وبخاصة السياسية والمدنية ونقص المعرفة والثقافة والنظرة غير المتوازنة الى حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل ناهيكم عن الموقف من حقوق الأقليات[6].
و الحقيقة أن مواجهة قضايا التنمية تتطلب الاعتراف للفرد بحقوقه وتمكينه من المشاركة الجادة والفعالة في أمور حياته. وهناك حاجة إلى تمتزج بين الحريات الفردية والتنظيم الاجتماعي. وقد أصدر الاقتصادي الهندي أمارتيا صن Amartya Sen ، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، مؤلفا حديثا عن "التنمية حرية" وهو عنوان يكشف عما يحتويه. فالحريات والإصلاح السياسي عمل مكمل وداعم للإصلاح الاقتصادي، وللتنمية بشكل عام وليس معرقلا لها.واقتصاد السوق لا يكتمل إلا مع الديمقراطية والحرية السياسية[7].
إن علاقة التنمية بالحكم الصالح أو الرشيد يمكن قراءتها من خلال ثلاثة زوايا هي: 1- وطنية، تشمل الحضر والريف وجميع الطبقات الاجتماعية والفئات بما فيها المرأة والرجل.
2- عالمية، أي التوزيع العادل للثروة بين الدول الغنية والدول الفقيرة وعلاقات دولية تتسم بقدر من الاحترام والمشترك الإنساني والقواعد القانونية.
3- زمنية، أي مراعاة مصالح الأجيال الحالية والأجيال اللاحقة[8] .
ووفقاً لهذه الزوايا يمكن قراءة الأبعاد الأساسية للحكم الصالح من خلال:
1- البعد السياسي، ويعني طبيعة النظام السياسي وشرعية التمثيل والمشاركة والمساءلة والشفافية وحكم القانون.2- البعد الاقتصادي والاجتماعي بما له علاقة بالسياسات العامة والتأثير على حياة السكان ونوعية الحياة والوفرة المادية وارتباط ذلك بدور المجتمع المدني واستقلاليته.
3- البعد التقني والإداري، أي كفاءة الجهاز وفاعليته، فلا يمكن تصور إدارة عامة فاعلة من دون الاستقلال عن النفوذ السياسي، ولا يمكن تصوّر مجتمع مدني دون استقلاليته عن الدولة ولا تستقيم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، بغياب المشاركة والمحاسبة والشفافية، هكذا إذا يحتاج الأمر الى درجة من التكامل.و لعل نقيض الحكم الصالح أو الراشد هو الحكم السيء poor governance وذلك من خلال المعايير التالية: 1- عدم تطبيق مبدأ سيادة القانون أو حكم القانون و Rule of law .
2- عدم الفصل الواضح والصريح بين المال العام والمال الخاص وبين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
3- الحكم الذي لا توجد فيه قاعدة شفافة للمعلومات وعلى العكس من ذلك قاعدة ضيقة لصنع القرار.4- استشراء الفساد والرشوة وانتشار آليتهما وثقافتهما وقيمهما.
5- ضعف شرعية الحكام وتفشي ظاهرة القمع وهدر حقوق الإنسان.
6- الحكم الذي لا يشجع على الاستثمار خصوصاً في الجوانب الإنتاجية ويدفع الى الربح الريعي والمضاربات
ثالثا: الحكم الصالح والتنمية على مستوى الخطاب الدولي:
أثارت سياسات التنمية الاقتصادية في عدد من الدول النامية قضايا متعلقة بسلامة الحكم ونزاهته، ونظرا لاستقرار مبادئ السيادة لكل دولة وضرورة عدم التدخل في شؤونها الداخلية، فقد وجدت العديد من مؤسسات التمويل الدولية صعوبة في التوفيق بين احترام هذه المبادئ المستقرة والحاجة إلى توجيه النظر إلى أهمية سلامة أساليب الحكم. فتوجهات البنك الدولي مثلا في قضايا التنمية كثيرا ما تصطدم بالاعتبارات السياسية للدول المتلقية للقروض من حيث عدم إمكان التعرض إلى قضايا النظم السياسية وأساليب الحكم القائمة، مع ذلك فقد أطهرت تجارب التنمية في العديد من الدول خاصة في إفريقيا، أن فشل التنمية كان راجعا بالدرجة الأولى إلى فساد النظم السياسية السائدة وأنه بلا يوجد أمل حقيقي في أي تنمية مستديمة مالم تحدث تغيرات في أساليب الحكم.
ورغبة من البنك الدولي في طرح هذه القضايا دون التعرض مباشرة للقضايا والأمور السياسية فقد سك تعبيرا جديدا لمناقشة هذه الأمور، هو تعبير الحكم الصالح أو ما يصطلح على تسميته بالحكامة.
ومن الواضح أن مفهوم الحكم الصالح أو الرشيد على هذا النحو يتسق مع الاتجاهات الأخرى السائدة، من حيث غلبة مفهوم اقتصاد السوق واستعادة دور الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فهذه الأفكار تمثل نوعا من الايدولوجيا الجدية التي تتكاثف المؤسسات الدولية والنظام الاقتصادي الدولي في الدعوة إليها. لقد أصبحت المنظمات الاقتصادية الدولية تمارس ضغوطا على الدول بواسطة القروض المشروطة، والاستشارات من أجل أن تكون أكثر اندماجية يستجيب ومتطلبات هذه المنظمات في المجال الحقوقي والسياسي، حيث أصبحت تتضمن في دساتيرها احترام المعاهدات الدولية كما هي متعارف عليها عالميا وحرية الرأي والتعبير و الديمقراطية والتعددية الحزبية، أي محاولة تعميم النهج الليبرالي الديمقراطي على المستوى السياسي.
و في دراسة للبنك الدولي بخصوص الحكم الرشيد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حددت معيارين: الأول حكم القانون والمساواة وحق المشاركة والفرص المتساوية للاستفادة من الخدمات، أما الثاني: التمثيل والمشاركة والتنافسية والشفافية والمساءلة<
و قال مدير البرامج العالمية في البنك الدولي "دانيال كوفمان" إن البنك الدولي أعد مؤشرات للحوكمة الجيدة، وتطبق في أكثر من 200 دولة، وهي وجود إدارة الحكم تتطلب استقرار سياسيا وغياب الأعمال الإرهابية والعنف وقيام الدولة بوضع سياسات معينة 'لا سيما إصدار قوانين حديثة وممارسة دور فاعل واحترام المواطنين وممارسة الرقابة على الفساد المتفشي)، كما اعتبر أن ضمان حسن إدارة الحكم بات إحدى نقاط ارتكاز مبادرات البنك الدولي لمناهضة الفساد ومساعدة الدول على بناء مؤسسات قطاع عام على درجة من الكفاءة والفعالية وتخضع للمسائلة.
والنهج الذي يعتمده البنك لمناهضة الفساد يتمحور حول أربع نقاط رئيسية وهي تقديم المساعدة للدول التي تطلب المساعدة في كبح الفساد، واتخاذ جهود مناهضة لفساد والإسهام في الجهود الدولية لمناهضة الفساد والكفاح من أجل منع ارتكاب أعمال فساد في المشروعات التي يمولها البنك الدوليhref="http://www.maktoobblog.com/FCKeditor/editor/fckeditor.html?InstanceName=Body&Toolbar=Default#_ftn10">[10]
.
وذهبت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE التأكيد على أربعة معايير هي دولة القانون وإدارة القطاع العام والسيطرة على الفساد وخفض النفقات العسكرية في حين أن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة PNUD ركز على تسعة معايير وهي:
1- المشاركة 2- حكم القانون 3- الشفافية 4- حُسن الاستجابة 5- التوافق 6- المساواة 7- الفعالية 8- المحاسبة
9- الرؤيا الإستراتيجية.
* معايير الحكم الرشيد وفقا للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة:
أ- المحاسبة التوافق.
ب-الشفافية الحكم الراشد/ الصالح (السليم) المشاركة .
ج-حسن الاستجابة حكم القانون .
د-المساواة الفعالية .
ولا يمكن الحديث عن هذه المعايير دون استقرار سياسي وسلم مجتمعي وأهلي، ووجود مؤسسات وتداول سلمي للسلطة وإقرار بالتعددية وانتخابات عامة دورية وإدارة اقتصادية ومشاركة شعبية.
وتجدر الإشارة إلى أن الدول المتقدمة المانحة للمساعدة أصبحت تكرر باستمرار سواء في المؤتمرات أو في المبادئ التي توجه السياسات الوطني أو الجماعية، حرصها على ربط المساعدة على التنمية باحترام حقوق الإنسان.
ولا يرجع هذا الربط المعلن فقط إلى ضغط المنظمات غير الحكومية والرأي العام، بل إن ذلك يرتبط أيضا بالوعي المتزايد في الدول المتقدمة نفسها بضرورة حد أدنى من ترشيد التعاون الدولي وإدخال قدر من العقلانية على السياسة الخارجية، ليس لاعتبارات أخلاقية أو إنسانية صرفة ولكن أساسا لاقتناعها أن مصالحها نفسها صارت مهددة بسبب تردي الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العامل الثالث، أمام تقلص الأموال المتاحة للمساعدة وتزايد طالبي الهجرة واللجوء وتيارات اللاجئين والضغط الديموغرافي وتدهور البيئة وانتشار التطرف والتعصب وما يرافق ذلك من نمو العنصرية في قلب "ديمقراطيات" الشمال الغني نفسه.
وقد أتاح انفراج الشرق والغرب ثم اختفاء الشرق إيديولوجيا، الاستغناء عن عدد من الديكتاتوريات التي كانت تلعب دور الحليف في هذا الصراع مقايضة ولاءها بمزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية وبمزيد من الصمت والسكوت عن انتهاكات حقوق الإنسان وتفشي الرشوة وتبذير الأموال العمومية، وهي ممارسات تقود إلى التدهور المشار إليه آنفا.
وقد أصبح من المعايير الأساسية لتقديم المساعدة، ما تطلق عليه الدول المتقدمة، تعبير الحكم الجيد Good governance .
ففي تصريح لمجلس وزراء خارجية السوق الأوربية المشتركة مؤرخ ب 28 نوفمبر 1991، نقرأ ما يلي: "يلح المجلس على أهمية الحكم الجيد، وفي حين يبقى من حق الدول ذات السيادة إقامة بنياتها الإدارية وترتيباتها الدستورية،فإن تنمية عادلة لا يمكن إنجازها فعلا وبشكل دائم إلا بالانضمام إلى مجموعة من المبادئ العامة للحكم: سياسات رشيدة اقتصاديا واجتماعيا، شفافية حكومية (...) وقابلة للمحاسبة المالية، إنشاء محيط ملائم للسوق قصد التنمية، تدابير لمحاربة الرشوة، احترام القانون وحقوق الإنسان، حرية الصحافة والتعبير(...) وهذه المبادئ ستكون أساسية في علاقات التعاون الجديدة " .
ونقرأ في مقدمة التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان في العامل لسنة 1989 ما يلي: "(..ولأننا نجد في الدول التي تحترم حقوق الإنسان أصدقاء لا أعداء...إنها الحكومات الأكثر استقرارا والمجتمعات الأكثر حيوية، حصون الحرية المحترمة لحقوق مواطنيها وجيرانها، وأكثر المسؤولين عن رفاهية المجموعة الدولية" .
و قد قامت الدول الأعضاء في لجنة "المساعدة على التنمية " (C.A.D) التابعة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إضافة إلى رؤساء ومدراء البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية في 5 دجنبر 1989 بإصدار تصريح مشترك بالسياسة العامة التي ستوجه التعاون لأجل التنمية في التسعينات، ومما جاء فيه: "إن هناك علاقة حيوية معترف بها اليوم على نطاق واسع بين الأنظمة السياسية المفتوحة والديمقراطية والقابلة للمحاسبة والحقوق الفردية وبين الأداء الناجح والعادل للأنظمة الاقتصادية. إن الديمقراطية القائمة على المشاركة تتطلب مزيدا من الديمقراطية ودورا أكبر للمنظمات المحلية والحكم الذاتي واحترام حقوق الإنسان بما في ذلك أنظمة قانونية فعالة ويسهل الوصول إليها accessible وأسواق تنافسية حرة وديناميكية".
غير أن أقوى تصريح بالسياسة العامة والمبادئ التي يجب أن تقود التعاون الدولي لأجل التنمية، وأكثرها انسجاما، هو المقرر الذي صدر عن مجلس وزراء المجموعة الاقتصادية الأوربية في 28 نوفمبر 1991 تحت عنوان: "حقوق الإنسان، الديمقراطية والتنمية" ، فقد اعتبرها هذا المقرر" أن المجموعة يجب أن تكون لها مقاربة approche مشتركة لدعم حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم الثالث" مما يحسن انسجام وفعالية المبادرات المتخذة في هذا المجال[12].
وإذا كان الحكم الصالح يعني حسن التصرف في إدارة الحكم لجهة الشفافية والمساءلة والمساواة ، لحدودها الدنيا وللشرائح الدنيا أحياناً ، فإنها يمكن أن تساعد في تحقيق التنمية وتشتبك مع الديمقراطية ، التي تعني أشكال وأساليب ممارسة السلطة السياسية وآليات اتخاذ القرار إضافة إلى مجموعة الضمانات القانونية ضد التعسف السياسي من جانب السلطة على حقوق الفرد والمجتمع كما ورد في أعلاه [13].
يبدو أن هناك علاقة وثيقة بين التنمية والحكامة والديمقراطية، لكن مثل هذه العلاقة ليست حصرية أو إجبارية ، فقد يكون هناك حكم غير ديمقراطي لكن إدارته وسلوكه أقرب إلى الحكامة ، وبالطبع فإن كل نظام ديمقراطي لابد أن يشتبك مع موضوع الحكامة خصوصاً في مسألة المساواة والمساءلة والشفافية.
كما أن تحسين أداء الحكم وربطه بالديمقراطية ، يتطلب نوعاً من الإصلاح السياسي سواء من حيث الأسس أو التوجهات العملية بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، فقد تتيح كما أشرنا بعض الأنظمة درجات معينة ومحدودة من المساءلة والشفافية لأسفل الهرم الحكومي ، لكنها تظل بعيدة عن المتطلبات والشروط الدولية للديمقراطية. أما أنظمة الحزب الواحد حيث تأكل الدولة المجتمع وتبتلع مؤسساته المدنية، (الأهلية وغير الحكومية) أو تحّولها إلى تابع لها فإن مسألة المساءلة والشفافية تضعف إلى حدود كبيرة، حيث ينتشر الفساد والتسلطية والاستبداد بتراتبية من قمة الهرم حتى قاعدته، على حد تعبير المفكر والمصلح عبد الرحمن الكواكبي.النظام الديمقراطي يتطلب فصلاً للسلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتناوبية عبر انتخابات دورية ومجتمع مدني ناشط ، واحترام لحقوق الإنسان، ومساءلة للحاكم، وتلكم هي إحدى مقاربات الديمقراطية على المستوى العالمي من الناحية الحقوقية الفكرية والسياسية، وهي التي أخذت بها الأمم المتحدة والعديد من الهيئات الدولية.
وهناك أسئلة تفرض نفسها باستمرار حول الديمقراطية والتنمية: منها هل أن الديمقراطية هي الرافعة التي تؤسس بالضرورة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ؟ أو أن هذه تنشأ بمعزل عن طبيعة نظام الحكم؟ أو قد تنشأ متأثرة بالنظام السياسي (نسبيا) أي بسلوكية الحكم ، سواء كان حكماً صالحاً (Good Governance)أو كان حكما طالحا (Poor Governance)، وسواء كان حكماً ديمقراطياً أم شمولياً؟
والسؤال يطرح على نحو آخر: هل الديمقراطية والتنمية مكوّنات لمعادلة واحدة ، بحيث إن وجود الأولى يقود بالضرورة الى الثانية؟ وهل أن الديمقراطية وحقوق الإنسان ، هما "الهدف المركزي" أم أن التنمية وتحسين الحياة الاجتماعية والرفاه الاقتصادي هي الهدف ؟ أي هل الديمقراطية هي الوسيلة والتنمية هي الهدف؟ أم أنهما تختلطان مع بعضهما وتتبادلان الأدوار أحيانا، فالوسيلة تكون هدفا لمرحلة تأسيس والهدف يصبح وسيلة لرفاه السكان؟ [14].
رابعا:سؤال التنمية والحكم الصالح الى أين؟
يطرح هذا السؤال نفسه بعد مناقشة إشكالية المفاهيم: هل يمكن الحديث عن حق الإنسان في التنمية باعتباره حقاً جماعياً للشعوب دون ربطه بالفرد الكائن البشري؟ ومصدر هذا السؤال يمتد الى الصراع الإيديولوجي في فترة الحرب الباردة والنظرة المنحازة لكلتا المنظومتين الاشتراكية والرأسمالية. ومثل هذا الجدل بل والصراع كان قائماً على المستوى الدولي سواء في الأمم المتحدة أو خارجها، وازداد عمقاً وشمولاً في ظل " العولمة " وارتفاع وتيرة المصالح في ظل لاعب أساس متحكم في اللعبة الدولية، وممارسة حقه في التجارة باعتباره الأقوى وتأثيره على المؤسسات المالية الكبرى، التي حوّلها الى حصون منيعة له، وبرز ذلك مع تراكم مشاكل الهجرة وانتشار المخدرات واستشراء الإرهاب وتفاقم مشكلة اللاجئين والتوظيف السياسي من وراء ذلك، حين كان الغرب يغض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان من بعض أصدقائه، بحجة مكافحة التطرف والتعصب والإرهاب والأصولية، وتحجب المساعدات عن دول حاولت أن تتلمس طريقها في التنمية بما ينسجم مع خصائصها وتطورها ورفضها الخضوع أو التبعية، ويمثل أمامها على نحو إغراضي قضية انتهاكات حقوق الإنسان، بطريقة توظيفية بعيدة عن عدالتها.في العام 1977 دخل " الحق في التنمية" في جدول أعمال لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، وبذلك بدأت مرحلة جديدة من مراحل تطور حقوق الإنسان.
شكّلت أسئلة التنمية جزءاً من المقترب البنيوي بخصوص الجيل الثالث لحقوق الإنسان، رغم أن الثمانينات شهدت أوضاعا انتقالية، استكملت حتى نهايتها بوضع حواجز أمام سلع العالم الثالث، مما زاد في تعميق أزمة التنمية واستفحال المديونية وهيمنة سياسة المؤسسات المالية الدولية، التي قادت الى استنزاف للموارد الطبيعية والإنسانية، للدول وتقليص فرص النمو والعمالة وارتفاع وتيرة العنف وعدم الاستقرار والمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان.وفي بداية التسعينات تعزز مفهوم الحق في التنمية بمفهوم " التنمية البشرية" كما ورد في تقارير الأمم المتحدة للتنمية، سواء من البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة PNUDأو من جانب البنك الدولي، حيث تمت الدعوة الى مكافحة الفقر وايلاء اهتمام اكبر بالجانب الاجتماعي واعتماد مبدأ المشاركة كجزء من الحق في التنمية ومبدأ الحكم الصالح الراشد (الجيد) Good Governance.
وفي بيان القمة بمناسبة الألفية الثالثة، لزعماء العالم الذي حضره نحو 150 زعيماً أيلول(سبتمبر) 2000، جرى الوعد بإحداث تغييرات رسمية بوضع أهداف لخفض نسبة من يعيشون بأقل من دولار واحد يومياً، الى النصف وكذلك عدد الأشخاص الذين يفتقرون الى مياه شرب صحية واستكمال البنين والبنات مراحل تعليمهم الابتدائي ووضع حد لانتشار الايدز والملاريا والأمراض الفتاكة الأخرى[15].
وفي البيان المذكور شددت الجمعية العامة للأمم المتحدة على القيم والمبادئ انطلاقاً من الأمم المتحدة وميثاقها كأساسين لا يمكن الاستغناء عنهما لبناء عالم أكثر سلاماً وازدهاراً وعدالة، وجرى التأكيد على السعي لتصبح العولمة قوة ايجابية لصالح جميع الشعوب في العالم وتقاسم فوائدها.
وتم التأكيد على قيم الحرية والحكم الديمقراطي والتشارك والمساواة والتضامن والتسامح والمسؤولية المشتركة في إدارة التنمية الاقتصادية والاجتماعية العالمية بالإضافة الى مسؤولية حماية السلم والأمن الدوليين.وبخصوص التنمية والقضاء على الفقر جرى التأكيد على ما يلي:
• تحرير الرجال والنساء والأطفال من الأوضاع المُذِلّة وغير الإنسانية.
• خلق مناخ مناسب دولياً ومحلياً، يتجاوب مع التنمية والقضاء على الفقر.
• اعتماد الشفافية المالية والنقدية التجارية من خلال أنظمة حكم تتكيف لذلك في كل بلد.• التعامل الفاعل لحل مشكلة المديونية للدول النامية ذات الدخل المنخفض والمتوسط.• تلبية احتياجات دول الجزر الصغيرة النامية.
• الإقرار بحاجة الدول النامية التي لا تمتلك منفذاً بحرياً ومساعدتها على تخطي عقبات النقل والمرور وتحسين أنظمتها وشبكات المواصلات.
وفي فقرة خاصة تم تناول موضوع حماية البيئة والتأكيد على المحافظة على الغابات وتطويرها ومكافحة التصحر والجفاف وإيقاف الاستغلال المفرط للموارد المائية. وفي إطار توصيف عملية التنمية وربطها بالديمقراطية جرى الحديث عن الحكم الصالح والتأكيد على بذلك الجهود لترويج الديمقراطية وتعزيز سيادة القانون الى جانب احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، المعترف بها دولياً بما فيها الحق في التنمية، مؤكداً على احترام حقوق الأقليات ومكافحة جميع أنواع العنف ضد المرأة وضمان حقوق المهاجرين والعمال وعوائلهم ووضع حد للأعمال المتصاعدة التي تتخذ شكلاً عنصرياً أو عداءاً وكرهاً للأجانب والتشجيع على الانسجام والتسامح في المجتمع.وكان مؤتمر فيينا العالمي لحقوق الإنسان الذي انعقد في العام 1993 قد دعا لإقرار تفاهم عالمي حول حق التنمية حين نص على " تحسن الطرح النظري وزيادة الأدوات الدولية في ميدان حقوق الإنسان، لا يمكن أن يحجبا عن كل متتبع أن الهّوة ازدادت في الوقت اتساعاً بين الدول وداخلها ولاسيما في حقل ما يصنف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكن فصلها عن الحقوق المدنية والسياسية .
انطلاقا من ذلك فان حق التنمية هو عملية شاملة ترمي الى ضمان جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وهي حق من حقوق الإنسان غير قابلة للتصرف، وجزء لا يتجزأ من الحريات الأساسية، ويرسخ إعلان الحق في التنمية هذا المفهوم، وذلك بسعيه لدمج التنمية بحقوق الإنسان على نحو متكامل، ويتطلب مسؤولية جميع الإطراف في المجتمع الدولي، ويسعى الى ربط مفاهيم التنمية الإنسانية المستدامة بحق الإنسان والمشاركة النشطة الحرة والفعالة لكل الأفراد في التنمية.
وتتأكد أكثر فكرة الربط بين الحقوق الفردية في التنمية وبين الحقوق الجماعية للمجتمع أو الدولة، فحق التنمية هو حق للفرد مثلما هو حق للجماعة، وإذا كان الأمر يتطلب جماعة متحررة غير خاضعة لهيمنة أجنبية، وحقاً على المستوى الدولي في مساعدتها على التنمية، فانه يتطلب أيضاً ديمقراطية داخلية واحترام حقوق الفرد حتى لا تصبح الجماعة قمعية.
ولا بد هنا من التأكيد إن تثبيت الحق في التنمية، وهو الخطوة الثانية المهمة بعد إعلان تصفية الاستعمار(الكولونيالية) لعام 1960، الصادر عن الجمعية العامة، إنما يستهدف المساعدة في تعديل الميزان المختل في العلاقة بين الشمال والجنوب، بين الأغنياء والفقراء، بين الأقوياء والضعفاء، وكذلك الجمع بين مجالين ظلاّ يعملان بصورة منفصلة وهما حقوق الإنسان والتنمية.
جدير بالذكر الإشارة الى أن الجمعية العامة واجهت منذ العام 1950 مشكلة تقرير ما إذا كانت ستمضي في طريق صياغة عهد دولي أو اتفاقية دولية لحقوق الإنسان ملزمة قانوناً، وذلك بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول (ديسمبر)عام 1948.
لكن الأمر الذي تم التوصل إليه هو صياغة عهدين أو اتفاقيتين رغم أن الجمعية العامة ذاتها أكدت :" إن التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، متداخلان ومترابطان، وان الإنسان المحروم من الحقوق الاقتصادية لا يمكن أن يكون نموذجاً للإنسان الحر".
لكن فشل لجنة حقوق الإنسان من التوصل الى صيغة كهذه، اضطر الجمعية العامة للموافقة عام 1952 على فصل حقوق الإنسان الى مجموعتين... وانطلاقاً من ذلك " القرار" اضطررنا أن نعيش هذا التقسيم الخاطئ وغير المقنع لمجموعتين من الحقوق رغم ترابطها وتداخلها.
عند تثبيت الحق في التنمية لا بدّ من لفت النظر الى مسؤوليات الحكومات الغربية، خصوصاً والحكومات بشكل عام إزاء الفرد والمجتمع، كجزء من البعد الأخلاقي لعملية دمج التنمية بحقوق الإنسان، سواءاً بمعناها الدولي ومسؤولية بلدان الشمال الغنية أو بمعناها الإقليمي والوطني بمسؤولية حكومات بلدان الجنوب عن ربط التنمية باحترام حقوق الإنسان كجزء منها وباحترام القواعد الديمقراطية في تطور المجتمع والفرد.
ويعد موضوع " الحق في التنمية" كجزء من تطور عملية حقوق الإنسان، وهو ما يطلق عليه الحقوق الجديدة من منطق " حقوق التضامن"، كالحق في السلام والحق في بيئة نظيفة، والحق في الاستفادة من التراث المشترك للبشرية. وكان فاسيك قد طرح المسألة عام 1977 بمناسبة التحضير للذكرى الـ 30 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومرور 200 عام على الثورة الفرنسية. ويعدّ "كارل فاسيك" مبدع فكرة الجيل الثالث لحقوق الإنسان، ويذهب أبعد من ذلك عندما يعتبر أن الحقوق المدنية والسياسية وهي التي تمثل (الجيل الأول)، كانت قد صيغت في القرن الثامن عشر وشكلت خلفية ثقافية للثورة الفرنسية.
أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهي تمثل (الجيل الثاني) فقد صيغت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين تحت تأثير الفكر الاشتراكي والماركسي ، خصوصاً موضوع المساواة والحديث عن حقوق العمل والعمال والضمان الاجتماعي وغيرها.أما (الجيل الثالث) أو " حقوق التضامن" فهي محاولة لإدخال البعد الإنساني بعد حقوق الإنسان، خصوصاً وان تلك الحقول كانت متروكة للدولة مثل البيئة والسلام والتنمية والتواصل والتراث المشترك للإنسانية